الجمعة، 26 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

59 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

225001222

د. محمد سعيد باه :

نقدم بين يدي الموضوع لمحة أخاذة من سيرة المصطفى  " صلى الله عليه وسلم"  ترينا الأفق البعيد الذي كان يحلق فيه الرسول القدوة  " صلى الله عليه وسلم"  في رسم الشخصية المؤمنة التي تكاملت فيها عناصر القوة، بعد تخليصها بالصقل والتعاهد من معظم عوامل وهنها، وهو يهتف بالبشرية لتعود من تيهائها الموغلة وأن تنهض من الارتكاس في حمأة السقوط فتعود إلى الجادة كي تستأهل تبوأ مقعد الاستخلاف وحمل وأداء الأمانة:

عن زيد بن سعنة   "رضي الله عنه" : «ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد  " صلى الله عليه وسلم"  حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما» (1).

أما إذا ألقينا النظرة في كتاب الله فسنجد الحديث الضافي الذي خصصه للإنسان من حيث هو كائن متفرد اختير لمهمة بضخامة الكون مع تشخيص دقيق وعميق لطبيعته وما يملكه من قدرات وما يصدر عنه من تصرفات في إطاري التأصيل والتفسير؛ فضلا عن تجلية البعد المزاجي فيه دون إهمال ما يطرأ له من تبدلات في الحالة النفسية أو العقلية (المزاج العام) بسبب ما هو مركوز فيه من محركات تتأثر بما يستجد في الإنسان تارة وتارة أخرى بفعل ما يحيط به من مؤثرات خارجية قاهرة، قد يقوى حينا على مجادلتها وكبح جماحها، وربما عاندته يوما وانهارت دفاعاته:

{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} (المعارج:19-23).

{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15-16).

وفي الحالتين نلحظ إرفاق القرآن العلاج بالتشخيص:

تأتي الصلاة بما تختزنه من طاقة خلاقة تجعل الإنسان يمارسها بعمق كي ينتشل نفسه بنفسه من وهدة سحيقة إلى التحليق عاليا، وفي حالة من السمو الروحي، بحيث إذا ما آب من تلك السياحة الروحية تبدلت حالته وشفت روحه وصفا مزاجه؛ عادت تلك الأجهزة التي كانت قد تعطلت إلى العمل بفاعلية واندفاع، وفي اتجاه متناغم مع بقية عناصر الكون المسبحة الممجدة لربها والدائبة في أداء وظائفها الثابتة في حسن سير الكون وتدبير أحوال الخلائق:

{ إِلَّا الْمُصَلِّينَ 22 الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ 23 وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ 24 لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ 25 وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 26 وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 27 إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ 28 وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ 29 إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ 30 فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْعَادُونَ 31 وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ 32 وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ 33 وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ 34 أُولَـئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ 35} (المعارج:22-35).

وفي سورة الفجر وجه المولى العليم بدخائل ونواقص الكائن البشري توجيها لطيفا ومؤثرا يتضمن توبيخا حانيا عن طريق وضع الإنسان - المتعكر مزاجه والمنحرف شعوره - في قالب جماعي يشعره بأن النقص الذي يعاني من درنه ويكابد ثقله يعم من حوله، من أجل عدم تيئيسه من استدراك نقائص طارئة نتيجة الضغط الشرس الذي يمارسه عامل شديد الانغراز في نفسيته (شدة حب الخير) المتضاعف بعامل «تزيين حب الشهوات»:

{كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ 17 وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ 18 وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا 19 وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا 20 } (الفجر:17-20).

وحين نديم النظر في العلتين المشخصتين وفي العلاجين الموصوفين نلحظ التداخل والتكامل في العناصر التي يهيب بنا كتاب الله أن نستثمرها للنهوض بهذا الكائن الهش والسامي في آن معا، ليستعيد نشاطه في السير نحو باب مولاه وخطاه ثابتة في الواقع وآثاره بارزة على الثرى الذي جاء منه وعاش عليه ثم يعود إليه في ختام جولته في مناكب الأرض.

وهنا القيمة الخاصة للمنهج المبثوث في رمضان وفي غيره من شعائر الإسلام في تخليص الإنسان من حالة المزاج المنحرف فيجعله يعاني من لأواء أيام الامتناع عن المعتاد من أطايب الحياة ثم يدفعه إلى ممارسة قدر كبير من البذل والعطاء ويغلف ذلك كله في حالة من النشوة الروحية تزيل الكدر المادي الذي قد يكون وراء فشل كثير من الوصفات العلاجية التي تتسم بمرارة المذاق فتمج، وربما دفعت الإنسان إلى الارتماء في أحضان المهيجات، ولا تكون النتيجة إلا المزيد من الخشونة التي تنعكس عن سلوكياتنا حين تجتاحنا موجة من الانفعال الذي يمثل أحد أبرز دلائل الفشل التربوي بسبب علة في المنهج أو بغير ذلك من العوامل النفسية والفكرية.

وبهذا الاستقراء للنهج الذي يرسمه لنا القرآن عن الإنسان (خلقا، ميولا، حالات، طوارئ، إمكانات، فرص، نوازع متناقضة...) يتضح بأنه يزاوج في منهجيته التربوية بأن هذا الكائن الذي يكاد الضعف أن يكون من أعمق سماته {اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} (الروم:54). معرض للسقوط إلى أن يصل القعر بقدر ما يملك من المؤهلات الخاصة تجعله يحلق فوق بقية الكائنات كما ورد في سورة الشمس التي تجلي البعدين المتقابلين بصورة تؤكد بأنه حديث من خالق هذا الإنسان العالم ببواطنه المطلع على دواخله:

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا 10} (الشمس:7-10).

من أروع ما نسجله هنا توظيف القرآن مصطلحا ذا رنين أخاذ ودلالة خاصة «التزكية»، وهو ما يؤكد ضمنا أن المزاج العكر لدى الإنسان حالة طارئة على فطرته النقية التي خلق عليها ثم يخوض معه جولة من التوجيهات، عبر موقف ولفتات تتناثر عبر صفحاته (قصة يوسف وإخوته في المقطع الأخير، قصة أصحاب الجنة، قصة موسى وأخيه هارون وهو يجره من لحيته بعد أن ألقى الألواح وهو غضبان أسف، قصة يونس إذ ذهب مغاضبا...) تتضافر وتتساند لتبرهن له على أنه صالح وأنه يملك مصدرا من الطاقة الخلاقة لا يكاد ينضب، إنما يكفيه أن يسوقه في المسار الصحيح ليجد نفسه وقد استعادت حالة الاستقرار والتوازن التي عليه أن يحرص على الحفاظ عليها:

{قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ 28} (المائدة:27-28).

في هذا المشهد ترتسم ملامح الشخص الإيجابي القوي في يقينه المتصرف وفق ما يوقن به من قيم استقرت لديه ثوابت لا يمكن أن تأتي حالة مزاجية لتبدل من خياراته التي يستنير بها في حياته، ثم يدفعنا القرآن إلى التأمل في هذه النوعية الرائعة التي ينعتها النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بأنها «مخموم القلب»، أي العملة النادرة التي تتجمل بها الحياة.

نحن مستيقنون، بأن حديث القرآن صريح وواضح في تأكيد أن المسألة تتعلق بمنزلة من منازل ولاية الله للعبد ننتهي إليها بسعي حثيث يتخلله السقوط والنهوض يتعاوران (يصدق ويتحرى الصدق..) وبعد معاناة ممضة ومكابدات شرسة نجتاز فيها من العقبات ونجندل من الأعداء ما لا ينحصر في عد، ثم نستمر في محاولة الصعود لوعورة الطريق الموصل للقمة السامقة، كل هذا نجده ملفوفا في هذا الأمر الرباني الملحق به التشخيص الدقيق للمسار المستقيم وما يفضي إليه من مكانة سامقة عند الله:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 35} (فصلت:34-35).

يكفي تبشيعا للمزاج الملتهب أن فسره القرآن بأنه أثر من آثار تلك النزغات التي ينزغناها عدونا الأول:

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 36} (فصلت:36).

 ننهي القول هنا بأن الإنسان كائن مرهف الحس قوي وسريع الاستجابة للمثيرات من حوله ويتميز أساسا بأنه يظل في حالة تجاذب بين مؤثرين: «العقل والعطافة»، وقد فضل المنهج القرآني المحافظة عليهما بصقل الأول ورفده بمحكمات المعرفة وتهذيب الثاني وشحنه شحنا متوازنا ليصل إلى حالة منشودة يعرفها المربون بـ: «اعتدال المزاج»، عندها يرق الإنسان فيشف فيعيش حالة الانسجام أو الانضباط التي شخصها الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  يوم كرر الوصاة للرجل المستوصي فقال: «لا تغضب»!

هوامش :

1- انظر تمام القصة بطولها في المعجم الكبير للإمام/ الطبراني.

العدد (603) ذوالقعدة 1436 هـ - أغسطس- سبتمبر 2015 م

522252452

منتصر الخطيب :

يعد فن البحث والمناظرة، وما يتطلبه من آداب ومنهجيات خاصة، من المباحث والفنون العلمية التي اهتم بها علماء الإسلام قديما وحديثا، ودرسوها دراسة مستوعبة، وتعمقوا فيها ومارسوها نظريا وعمليا؛ بهدف توسيع آفاقهم وصقل مداركهم وإقناع الغير بآرائهم واجتهاداتهم، ومن ثم تعاطوا مع هذا الفن ومارسوه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، ولم يخل أي عصر من العصور الإسلامية من وجود مناظرات ومحاورات ومناقشات في هذا العلم أو ذاك، وبين هذا أو ذاك، أو في هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تكون مجال بحث ومناظرة تثري البحث العلمي وتبين قيمة فكر هؤلاء العلماء الأجلاء.

ولئن كان فن البحث والمناظرة وآدابه ومنهجه قد عرف بين العلماء واشتهر في بلاد الشرق الإسلامي، فإنه عرف وانتشر كذلك في بلاد الغرب الإسلامي - المغرب والأندلس - بحكم ما أنجبت هذه البلاد من علماء كبار، التقى علمهم بعلم الشرق، فكون ذلك الرصيد العلمي الهائل، والثراء الفكري والحضاري الكبير الذي لايزال جله حبيس المخطوطات.

يقول أبوزهرة: «وقد عني العلماء في الإسلام بالجدل والمناظرة عناية شديدة من يوم أن نشب الخلاف الفكري بين العلماء ورجال الفكر في هذه الأمة، وانتهت عنايتهم بوضع قواعد لتنظيم الجدل والمناظرة، لكي يكونا في دائرة المنطق والفكر المستقيم، أسموها علم الجدل أو علم أدب البحث والمناظرة» (1).

وهكذا اندرج المسلمون والنصارى بالأندلس معا ضمن ذلك التقليد، وأسهموا في هذا الرصيد التاريخي والثقافي والمعرفي بها. وقد جمعت المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية منذ أن اضطرهما التاريخ إلى الالتقاء ببعضهما، فدفعت بالإسلام والمسيحية إلى الانخراط معا في تقليد التعايش والمثاقفة بينهما على أرض الأندلس. ولقد عبرت عن أجزاء من تمظهرات هذا الواقع، أعداد من كتب المناظرات الدينية التي كانت تعقد باستمرار، عمل بعض المهتمين بموضوعها على إخراج بعض متونها وتحقيقها؛ ومن بينهم يمكن أن نذكر عبدالمجيد التركي، وعبدالمجيد الشرفي، وأحمد حجازي السقا، ومحمد رزوق، وغيرهم.

يقول د. عبدالواحد العسري: «لم تتبلور بالأندلس مناظرات جدلية دينية بين النصارى والمسلمين خلال الفترة نفسها التي ظهرت فيها بالشرق الإسلامي، بيد أنه بمجرد ما وصلت رسالة عبدالمسيح الكندي إلى الأندلس، أخذ النصارى في إنتاج ردود ضد الإسلام على منوالها، ووفقا لمحتوياتها. ولقد دافع «فان كونينكز فلد» على هذه الأطروحة وانتصر لها، معززا ذلك بشواهد تاريخية ونصية متعددة» (2).

ويعد كتاب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) «المنهاج في ترتيب الحجاج» أهم الكتب التي اعتنت بفن المناظرة والجدل، ويعتبر الباكورة في هذا الفن في الغرب الإسلامي/الأندلس؛ موطنه، وقد اتسم الباجي بطابع الثقافة الفقهية الأصولية الجدلية الشاسعة والجامعة، فهو الفقيه المالكي الوحيد الذي استطاع أن يجادل الفقيه الظاهري ابن حزم في المجالس التي كانت تعقد بدعوة من الأمير ابن رشيق، بعد رجوعه من رحلته المشرقية، كما شهد بذلك مؤرخ المالكية القاضي عياض في ترتيب المدارك. وقد ذكر الباجي ذلك في مقدمة كتابه فقال: «ولو تأملت ما في كتابنا هذا من هذه الطريقة؛ لرأيته كله مأخوذا من الكتاب والسنة ومناظرة الصحابة، وإنما للمتأخر في ذلك تحرير الكلام وتقريبه من الأفهام» (3).

ولقد سطر مفكرو الإسلام منذ العهود الأولى شروطا وآدابا لهذه المناظرات، ووضعوا ضوابط علمية لإقامتها؛ خشية الانزلاق بها إلى متاهات عقيمة لا طائل من ورائها، وقد رسم ابن خلدون في المقدمة معالم هذا العلم، ومسوغاته وغاياته فقال: «فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوصا منقطعا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه» (4).

ويقول د. حبنكة الميداني: «ولما كان الجدال في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقناع بها، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، والجدال سلاحه للدفاع عن أفكاره؛ فقد أمر الإسلام به للدفاع عن الحق الإسلامي؛ مشروطا بأن يكون بالتي هي أحسن.. فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46).. ومن هذا يتحصل لدينا أن الجدال للوقوف على الحق لإقناع الناس به عمل محمود.. أما الجدال انتصارا للنفس ورغبة بالاستعلاء والغلبة فهو عمل مذموم، وقد يكون حراما إذا كان فيه طمس للحق أو تضليل للمناظر» (5).

وشهد تاريخ المسلمين عددا كبيرا من هذه المناظرات منذ الفجر الأول؛ ولنا في سيرة رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  الأسوة في ذلك حين أتاه أحد مبعوثي قريش - عتبة - يفاوضه فقال له رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «أفرغت؟ قال: نعم. قال: فقال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} (فصلت:1-2) حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَعِقَةً مِّثْلَ صَعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13). فقال عتبة: حسبك حسبك» (6). وحفظ لنا التاريخ نماذج لمناظرات أجراها بعض علماء الإسلام مع مختلف الفرق وأهل الديانات؛ كمناظرة عبدالله بن عباس   "رضي الله عنه"  مع الحرورية فيما أنكروه على علي   "رضي الله عنه" . ومناظرة اليهودي لمسلم في مجلس المرتضى. ومناظرة في الرد على النصارى من تأليف فخر الدين الرازي. وجهود الفقيه أبي بكر الطرطوشي (ت 520هـ) في الجدل مع اليهود؛ ثم الرسالتان موضوع هذه المشاركة: رسالة راهب فرنسا إلى الأمير الأندلسي المقتدر بالله الأندلسي حاكم سرقسطة يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية، وجواب الفقيه أبي الوليد الباجي عليها، والتي تبقى أهم هذه المناظرات وأشهرها، وقد تم تحقيقها ونشرها من طرف الدكتور محمد عبدالله الشرقاوي الأستاذ بقسم الفلسفة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وصدرت عن دار الصحوة للنشر والتوزيع بالقاهرة.

جاء في تصديرها: «هاتان وثيقتان بالغتا الأهمية، لأنهما تكشفان عن جانب من العلاقة الثقافية أو الجدلية الدينية أو الحضارية - سمها كيف شئت - بين المسلمين في الأندلس، والنصرانية في أوروبا الغربية في القرن الخامس الهجري. الوثيقة الأولى أو الرسالة الأولى بعث بها راهب فرنسا - متطاولا - إلى الأمير المسلم المقتدر بالله، حاكم سرقسطة؛ يدعوه فيها إلى الدخول في دين النصارى، ويشرح له بعض أسسه وقواعده ومحاسنه. والوثيقة الثانية: هي نص الجواب الذي كلف الأمير القاضي أبا الوليد الباجي بكتابته ردا على رسالة الراهب الفرنسي، بعد مقابلة مبعوثَيه ومناقشتهما. والرسالتان معروفتان لدى الباحثين الغربيين معرفة جيدة، فقد نشرتا في الغرب وترجمتا إلى أكثر من لغة أوروبية، ولكنهما – للأسف - على أهميتهما الكبيرة لا يكاد يعرفهما إلا نفر يسير جدا من الباحثين المسلمين المتخصصين، فضلا عمن سواهم» (7). ومما جاء في رسالة الراهب الفرنسي من الدعوة الصريحة لهذا الأمير بالدخول في النصرانية قوله: «... إلى الصديق الحبيب الذي نؤمله أن يكون خليلا مدانيا، المقتدر بالله على دولة هذه الدنيا، الملك الشريف، من الراهب أحقر الرهبان، الراغب في الإنابة والإيمان بالمسيح يسوع، ابن الله سيدنا!!!.. لما انتهى إلينا أيها الأمير العزيز أمرك الرفيع في الدنيا وبصيرتك في تبيين أحوالها المتغيرة، رأينا أن نراسلك وندعوك، لتؤثر الملك الدائم على الملك الزائل الفاني... وقد كان فيما سلف من ذنوب إبليس وتضليله للعباد ما يلقيه العذاب الأليم يوم القيامة من الله سيدنا يسوع المسيح، وقد ضاعف تلك الذنوب بما أوبق فيه هذه الأمم العظيمة.. فاعتبر ـ أيها الملك الشريف ولا تؤثر شيئا على نجاة نفسك يوم الحكم والجزاء، فإنا مخلصون في خدمة أمورك، ومسارعون إلى تفديتك بنفوسنا... وإن لم يظهر لك - يا أيها الحبيب - مراجعتنا بجوابك على ما تضمنه كتابك لآفات الكتب، فأودع ذلك إخواننا هؤلاء وأطلعهم على سرك، وما يتمثل في نفسك، ونحن نضرع إلى سيدنا يسوع المسيح أن يتولى رعايتك، ويتكفل سلامتك، ويهديك إلى دينه المقدس، ويسعدنا بالإيمان الصحيح به آمين...» (8).

فجاء جواب الفقيه القاضي الجليل الفاضل أبي الوليد الباجي رحمه الله على هذه الرسالة ببيان ضعف موضوعها ودحض مفترياتها: حيث قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وعلى آله وسلم، العزة لله، والصلاة على رسوله.. تصفحت أيها الراهب الكتاب الوارد من قبلك، وما متت به من مودتك، وأظهرته من نصيحتك، وأبديته من طويتك، فقبلنا مودتك لما بلغنا من مكانتك عند أهل ملتك، واتصل بنا من جميل إرادتك، ونبهتنا لعمر الله بنصيحتك، على ما يلزمنا من ذلك لك، ولولا ما كنا نعتقد من بعد مستقرك، وتعذر وصول كتابنا إليك لكنا أحرياء أن نأتي من ذلك ما يلزم، ونسلك منه السبيل الأوجب، ولكنت - عندنا - جديرا بعرض الحق عليك وإيصاله إليك، فقد قرر لدينا من وصل من رسلك، وأهل ملتك ما تظهره من حرصك على الخير، ورغبتك في الحق، مما قوى رجاءنا في قبولك له، وإقبالك عليه، وأخذك عليه، وأخذك به، وإنابتك إليه... ولما تكررت علينا رسائلك ووسائلك تعينت علينا مفاوضتك، فيما رضيناه من مسألتك، ومعارضتك فيما اخترناه من منهجك في النصح، الذي يجري إليه أهل الفضل، وأمرنا الله به على ألسنة الرسل، وكففنا عن معارضتك على ما استقبحناه من خطابك، وسخطناه من كتابك، من سب الرسل الكرام، والأنبياء المعظمين - عليهم السلام -، وانحرفنا عن ذلك إلى أن نحذرك وننذرك ونعذرك فيما لم يبلغك علمه، ولم يتحقق لديك حكمه، ونبالغ في الرفق بك، والتبيين لك على منهج الخطب والرسائل، لا على طريق البراهين والدلائل، مساعدة لك على مذهبك في كتابك، وموافقة لك في مقصدك، فعسى أن يكون أقرب إلى استمالتك، وأبلغ في معارضتك ومعالجتك...

ولوددنا أن تصير إلينا فنبلغ الغرض من تعليمك، ونتمكن من تفهيمك، ونبين لك من تحقيق الكلام وتحريره، وتفصيله وتوجيهه، وترتيب الأدلة ومقتضاها، وإحكام البراهين ومنتهاها، ما يزيل كل سخيفة من نفسك، ويطهر من دنسها قلبك، فتعاين الحق جليا واضحا، والدين قويا لائحا... والله نسأل أن يهديك ويهدي بك من قبلك فتفوز بأجورهم، وتكون سببا إلى استنقاذهم، فأنت فيما بلغنا مطاع فيهم. والسلام على من اتبع الهدى» (9).

لقد كان أبوالوليد الباجي من العلماء والفقهاء البارزين في الأندلس، بذل جهودا كبيرة لتوحيد صفوف المسلمين في الأندلس ضد النصارى الإسبان، فطاف مدن الأندلس وقواعده لجمع شتات الأمة الممزق. وكان عميق الفهم، صاحب حجة، يقيم الحجة على خصومه من الفقهاء، فكان صادقا في أقواله وأفعاله، وفي دعوته وفي عرضها. واستطاع أن يستوعب المناهج التي درسها سواء في بلاده الأندلس أو في رحلته إلى المشرق من فقه وحديث ولغة وعلم الكلام وغيرها، حتى تأهل ليكون داعية لحمل رسالة التوحيد والجهاد في سبيل الله. وكان تردده بشرق الأندلس وما بين سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية؛ فحدث يوما أثناء وجوده في سرقسطة أيام حكم المقتدر أحمد بن هود (حكمه ما بين: 438هـ و474هـ) أن جاءت رسالة من أحد عمالقة الرهبان الفرنسيين يدعو فيها هذا الأمير إلى الدخول في الديانة المسيحية والانسلاخ عن العقيدة الإسلامية، فكتب الباجي رسالة على لسانه رد فيها على هذا الراهب؛ وسلك فيها طريق الاعتدال، وطرق الحجة بالحجة، وأعاد الداعي مدعوا، وبقي الأمير وإمارته سرقسطة على دين الإسلام.

وأول ما يلاحظ على مجمل هذه الرسالة كما يقول د. الشرقاوي محقق الرسالتين: «بيد أن رسالة الباجي تظهر - في تقديري - رؤية إسلامية صحيحة وعميقة، لما عليه العقيدة النصرانية من اضطراب وتناقض ووهاء، كما أنها تبرز مسؤولية القاضي الباجي في الدعوة إلى الله تعالى بين غير المسلمين، ووعيه بالطريق الأرشد إلى ذلك. فالقضية - عنده - لم تكن مجرد تدبيج جواب على رسالة راهب فرنسي بعث بها – مع رسولين - إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة، أقصى ما يؤمله الباجي من ورائه أن يرضى المقتدر بالله عنه، لكن طموحه السديد كان أبعد من ذلك وأعظم؛ إذ كان يروم تعريف راهب فرنسا وكبير رجالات الكنيسة فيها بمحاسن الإسلام، وما عليه النصرانية - بعد التحريف - من مجافاة للعقل والمنطق، فضلا عن مصادمتها للفطرة السليمة بأسلوب قويم حكيم. وإن كل فقرة في الرسالة لتؤكد هذا المعنى وتعمقه» (10).

كما أن الموضوع الأكثر إثارة في هذه الرسالة هو محاولة الباجي الجواب على الراهب الفرنسي في مسائل الاعتقاد، وخاصة فيما يتعلق بنبي الله عيسى - عليه السلام - الذي يعتقدون ببنوته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - يقول د. عبدالواحد العسري: «سبق أن ذهبنا إلى أن الخلاف الأساسي الذي تدور عليه جميع المجادلات الإسلامية النصرانية يكمن في التصورات المختلفة للنصارى وللمسلمين لله وللنبوة. ذلك هو ما استقطب مجموع الدعاوى والاعتراضات التي دارت بالمجلس الخامس الذي ناظر فيه الأنصاري، رئيس كتبة الملك وحاجبه» (11)، في إشارة إلى مناظرة أخرى في نفس المجال.

ولقد نقض الباجي دعوى الراهب دون أن يعترض على لفظ رسالته ولا على صحة نقلها. كما عمل على منعها بإبطال ما استلزم من ألفاظها مناظره من تصورات تشبيهية وتحييزية لله ولصفاته التي رام بنسبتها للإسلام نسف دعوى هذا الدين بخصوص التوحيد والتنزيه اللذين يقوم عليهما. وبذلك استطاع أبوالوليد الباجي أن يحقق هدفه من مجادلته للنصارى التي اضطر إليها، باعتراضه على دعاواهم ومنعها وإبطالها، فأفحمهم وانتصر عليهم، معتمدا في كل ذلك بعض قواعد المناظرة المنطقية والتداولية والأخلاقية.

وهكذا أبطل الباجي دعوة النصارى المبطلين لدينه والمنكرين لنبوة نبيه، بالاستناد إلى كتبهم المقدسة على دعواهم. واتخذ نفسه في مناظرته أدوار المدعي المعلل والمجيب للدفاع عن تصور اعتقاد المسلمين لله تعالى ولنبوة نبيه محمد  " صلى الله عليه وسلم" ، لذلك بادر في مناظرته إلى القول: «وما من نحلة ولا ملة إلا وهي تزعم أن نفوسها نيرة بما تعلمه، منشرحة بما تعتقده، وكذلك تقول البراهمة الذين يكذبون الرسل، والدهرية الذين يدعون الأزل، والفلاسفة القائلون بقدم العالم، والثنوية المثبتون لخلق النور والظلام، فما أحد من هذه الفرق إلا وهو يدعي أن نفسه أسكن إلى ما تعتقده، وأوثق بما تنتحله، وأنور بما يزعم أنه يعلمه من نفوس مثبتي الرسل، ومتبعي الكتب. لكن وضع الكلام ونشره، وتمييزه ووصفه يعلي الحق ويثبته، ويدحض الباطل ويمحقه» (12).

وأهم خصلة في جواب الباجي هذا التزامه بشروط المناظرة التي وضحناها من قبل، والتي منها التزام المتناظرين بالأدب والأخلاق والجدال بالتي هي أحسن، يقول د. حبنكة الميداني: «فالمسلم مطالب بأن يلتزم في مجادلته لإثبات الحق الذي يؤمن به وإقناع الناس به، الخطة التي هي أحسن من كل خطة يمكن أن يتخذها الناس في مجادلتهم. لذلك كان من أخلاق المسلم وآدابه مع خصوم دينه ومخالفي عقيدته؛ فضلا عن إخوانه المؤمنين أنه لا يسلك مسالك السب والشتم والطعن واللعن والهمز واللمز والهزء والسخرية والفحش والبذاءة» (13)، وهذا ما نلحظه في الأسلوب الذي اعتمده الباجي في رسالته في الرد على راهب فرنسا؛ فقد كان شديد الأدب حافظا لسانه من الزلل متجنبا الاستهزاء والسخرية.. ولاشك أن في هذا الجواب ما يدفعنا إلى تجلي دور هذه المناظرات في إحقاق الحق ودفع الخصوم. مما يضطرنا إلى البحث عن المزيد من أصول هذه المناظرات لتتبع ردود المسلمين على نصارى الأندلس في محاورتهم لهم في باب الاعتقادات من أصول الدين، واستجلائه ووضعه في الحسبان أثناء المناظرات الفكرية التي تدار اليوم، متتبعين روح التسامح التي طبعت نقاشهم ذلك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

الهوامش :

1- تاريخ الجدل، محمد أبوزهرة، دار الفكر العربي، ص:36.

2- مقال بعنوان: قواعد المناظرة وأخلاقياتها من خلال مجادلة محمد القيسي ومحمد الأنصاري للنصارى بالأندلس، د. عبدالواحد العسري، مجلة كلية آداب تطوان.

3- المنهاج في ترتيب الحجاج، لأبي الوليد الباجي، تحقيق عبدالمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ص:8-9.

4- المقدمة، ابن خلدون، دار الفكر، ص:263.

5- ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، د. حبنكة الميداني، دار القلم، ص:363.

6- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، دار الفكر، الحديث رقم: 9824.

7- رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين ورد أبي الوليد الباجي عليها، د. محمد عبدالله الشرقاوي، دار الصحوة، ص:27.

8- نفسه، نص الرسالة والجواب عليها.

9- نفسه، نص الرسالة والجواب عليها.

10- نفسه، المقدمة.

11- المقال السابق.

12- نص الرسالة.

13- ضوابط المعرفة، د. حبنكة الميداني، ص:363.

9 30 2015 9 00 08 AM

أحمد عقل محمود:

الإنسان في سعيه على طريق الله عليه أن يطرق كل أبواب الخير، فلا يعقل أن إنسانا يبيت لربه ساجدا قائما ثم يصبح يتكبر على غيره، أو أن يرد السفاهة بالسفاهة، أو أن يؤذي غيره، أو أن يكذب أو...

كثيرون من أبناء المجتمع الإسلامي يفرقون بين العبادات (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج...)، والسلوك (التواضع، بشاشة الوجه، الصدق في التعامل، إفشاء السلام...). فالعبادات بدورها هي اصطفاء للإنسان وتجلية قلبه وعقله من عفن وشوائب الأخلاق السيئة؛ كي يصبح قادرا على ترجمة هذه العبادات -بعد أن يتصل بربه- إلى أسلوب حياة ومنهج متبع في تعاملاته.

فما يحويه القلب والعقل يظهر في خلق الإنسان وسلوكه من خلال تعامله مع الآخرين، «فكل إناء بما فيه ينضح». ولما كان الإنسان كائنا اجتماعيا لا يستطيع العيش وحيدا منعزلا عن غيره، وجب عليه أن يحسن كي يحسن إليه.

هذا الإحسان الذي يحسنه الإنسان، والذي يترجمه في سلوكه، إنما هو تطبيق فعلي عملي لما أملته عليه العبادات.

هذه الترجمة في مجموعها تشكل ما يسمى بـ «أخلاق الإنسان»، فإن قدم الإنسان سلوكا مقبولا مرغوبا فيه من أفراد مجتمعه، أصبح هذا الإنسان ذا أخلاق كريمة، وإن قدم الإنسان سلوكا مرفوضا مرغوبا عنه من أفراد مجتمعه، أصبح هذا الإنسان ذا أخلاق ذميمة.

فالأخلاق من أهم جوانب بنيان الإنسان؛ لأنها هي الأساس في بناء الفرد بناء شاملا، وإصلاح المجتمع إصلاحا متكاملا. فسلامة المجتمع وقوة بنيانه وسمو مكانته وعزة أبنائه وصحة أفكاره ورصانة آرائه تكمن في تمسكه بالأخلاق الحميدة. فالأخلاق العالية هي روح الإسلام ولبه، وأساسه وغايته، لأن الدين ليس في كثرة العبادات فقط، بل إن الدين هو المعاملة، فالمعاملة الحسنة للناس قد يفوق ثوابها كثيرا من العبادات المعروفة، ويوضح الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  حينما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: «تقوى الله وحسن الخلق» (1)، وأيضا حينما قال له رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار». قال يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها. قال: «هي في الجنة» (2).

والتربية هي علم سلوكي يرتكز إلى شتى صور وألوان السلوك الإنساني، ويسعى إلى محاولة التعرف على العوامل والأسباب التي تؤثر فيه داخل بيئة الإنسان التي يعيش فيها.

ومن أهم مجالات ذلك العلم (التربية)، مجال التربية الأخلاقية، والذي يستهدف في المقام الأول تربية النشء على الخلال الحميدة والشيم المرضية والصفات الكريمة، مثل: الجود، الحلم، الصبر، الوقار، التواضع، الصدق، الأمانة، العفة، طلاقة الوجه والتنزه عن دنيء الأمور. هذه الصفات وغيرها من شأنها أن تعلي من شأن الإنسان وصولا إلى مرتبة الإيمان، فالنظرة الكلية لمجموع هذه الصفات أولى وأوجب من النظرة الجزئية.

فـ«التربية الأخلاقية» هي: «تنشئة الطفل وتكوينه إنسانا متكاملا من الناحية الأخلاقية بحيث يصبح في حياته مفتاحا للخير ومغلاقا للشر في كل الظروف والأحوال، ويسارع إلى الخيرات ويتسابق فيها كما يسارع إلى إزالة الشرور» (3).

وأيضا هي: «مجموعة من المبادئ الخلقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تميزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفا إلى أن يتدرج شابا إلى أن يخوض خضم الحياة» (4).

وبشكل مجمل هي: «تعويد الناشئ على الأخلاق الفاضلة والشيم الحميدة حتى تصير له ملكات راسخة وصفات ثابتة يسعد بها في الدنيا والآخرة، وتخليصه من الأخلاق السيئة» (5).

وتتمثل أهمية التربية الأخلاقية في ما يلي:

1- أنها امتثال لأمر الله عزوجل، وطاعة للرسول  " صلى الله عليه وسلم" ، قال الله عزوجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)، فلقد جمع الله سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق في هذه الآية، وأمر بالأخذ بها، والتحلي بما ورد فيها. وكذلك فإن التحلي بالأخلاق الكريمة طاعة للرسول  " صلى الله عليه وسلم" ، قال الرسول  " صلى الله عليه وسلم" : «وخالق الناس بخلق حسن» (6).

2- حسن الخلق عبادة، بل إن ثواب بعضه قد يفوق كثيرا من العبادات المعروفة، فمثلا التبسم في وجه المسلم عبادة، والكلمة الطيبة عبادة، وزيارة الأخ في الله عبادة، وعيادة المريض عبادة، ومصافحة المسلم عبادة، وصلة الرحم عبادة، وقضاء حوائج الناس عبادة، وكف الأذى عن الغير عبادة.

3- أخلاق العبد السيئة وسلوكياته الشائنة تأكل خيراته، وتهدم حسناته، وتجعله مفلسا من الصالحات، وتحمله من الأوزار والسيئات، وتقذف به في الدركات، ولو قام وصام وعمل الصالحات، سأل النبي  " صلى الله عليه وسلم"  يوما أصحابه فقال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» (7).

4- كسب القلوب، فحُسن الخلق من أعظم الأسباب الداعية لكسب القلوب، فهو يحبب صاحبه للبعيد والقريب، فالناس على اختلاف مشاربهم يحبون ويقدرون محاسن الأخلاق، ويألفون أهلها، ويرغبون في مجالستهم، ويبغضون مساوئ الأخلاق، وينفرون من أهلها، ويرغبون عن مجالستهم ومخالطتهم، قال الله عزوجل: {بِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ? وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159).

ولعل ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات ما تلمسته من استضعاف لأولئك الذين ينتهجون منهج الله في تعاملهم مع غيرهم، راجين في ذلك ثواب الله، فالإساءة كل الإساءة عندما نرى أناسا لا يتخلقون بالأخلاق الحميدة الكريمة، ليس هذا فحسب، بل ينكرون على غيرهم التخلق بها.

هوامش :

1– أخرجه الترمذي، في سننه، كتاب أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق، ج4، ص363، رقم الحديث 2004.

2– أخرجه أحمد، في مسنده، ج15، ص422، رقم الحديث 9676.

3– مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية الأساسية، لبنان، بيروت، دار الريحاني، 1406هـ، ص 301.

4– عبدالله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، ط3، سوريا، دمشق، دار السلام، 1401هـ، ص 177.

5– حسن بن علي الحجاجي، الفكر التربوي عند ابن القيم، السعودية، الرياض، دار الهدى للنشر والتوزيع، 1408هـ، ص 214.

6– أخرجه الترمذي، في سننه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، ج4، ص355، رقم الحديث 1987.

7– أخرجه مسلم، في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ج4، ص1997، رقم الحديث 2581.

0200020

محمد رشيد العويد :

ما أحوج كثيرا من الناس إلى تعلم آداب الحوار، حتى ينجحوا في تحقيق ما يريدونه من حوارهم، ويحافظوا على استمراره، ويختصروا أوقاتا تضيع حين يتحول الحوار جدالا عقيما.

وخير من نتعلم منه آداب الحوار، كما نتعلم منه كل شيء، إنما هو أسوتنا صلى الله عليه وسلم، إذ نجد آدابا عظيمة، جميلة، في كثير من محاوراته التي تزخر بها سيرته صلى الله عليه وسلم.

وأختار اليوم ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين عتبة ابن ربيعة، سيد من سادات مكة، حين جاءه يعرض عليه أمورا، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث علمت من السلطة - المكانة - في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع.

وأرجو أن نقف هنا نتأمل كيف وجه عتبة أربع تهم عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم هي: أنه صلى الله عليه وسلم فرق قومه، وسفه عقولهم، وعاب آلهتهم، وكفر آباءهم، فلم يرد صلى الله عليه وسلم على أي واحدة من هذه التهم، ولم يفندها ولم يعترض عليها، لأنه لا يحمل هم نفسه، ولا يريد أن يضيع الوقت في تفنيدها، والانشغال بها، فهو يحمل رسالة عظيمة هي كل همه.

لم يقل صلى الله عليه وسلم: قبل أن أسمع منك أريد أن أبين لك بطلان ما اتهمتني به، فأنا لم أفرق قومي بل جئتهم بما هو خير لهم، ولم أسفه عقولهم إنما سفهت عبادتهم للأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولم أعب آلهتهم إلا لأنها أصنام تحتاج إلى تحطيم.

وفي هذا توجيه للدعاة ألا ينشغلوا بالفروع، وألا يكون همهم دفاعهم عن أنفسهم، وألا يخوضوا في ما يبعدهم عن أساس دعوتهم.

وللأسف فإن كثيرا ممن يحسبون أنفسهم محاورين إنما هم مجادلون، ينساقون إلى ما يخرجهم عن حقيقة الحوار وآدابه، وعن دعوتهم وغاياتها.

ثم نلاحظ أدب النبي صلى الله عليه وسلم في خطاب عتبة إذ قـال: يا أبا الوليد، فخاطبه بكنيته، ولم يخاطبه باسمه، وهذا ما يحسن بالمحاور أن يقوم به فيقدر من يحاوره، ولا ينال من شخصه، ولا ينقص من قدره. ولقد تكرر خطابه صلى الله عليه وسلم بأبي الوليد مرة أخرى كما سنجد في بقية الحوار.

قال عتبة يعرض أموره: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيـه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.

وهنا أيضا نجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يناقشه في عروضه، ولا ينشغل بالرد عليها ورفضها، إنما يكتفي بأن يسأله إن كان قد انتهى من كلامه «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: «فاسمع مني»: قـال عتبة: أفعل. فتلا صلى الله عليه وسلم سورة فصلت، أي أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بكلام الله تعالى يتلوه عليه، فهو الذي يريد تبليغه للناس، هو الرسالة التي لا يمكن أن يتركها صلى الله عليه وسلم، إنه لا يدعو لنفعه، ولا يريد شيئا مما عرضه عليه، حتى إنه لم يلتفت صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يقف عنده، ولم يكترث به، ولم يحاوره حوله. إنها الرسالة الخاتمة، النبأ العظيم.

هكذا ينبغي أن يكون الدعاة، لا يلتفتون إلى شيء سوى إبلاغ رسالة الله تعالى، «بلغوا عني ولو آية» (البخاري). {وَأَطِيعُوااللَّهَوَأَطِيعُواالرَّسُولَوَاحْذَرُواۚفَإِنتَوَلَّيْتُمْفَاعْلَمُواأَنَّمَاعَلَىٰرَسُولِنَاالْبَلَاغُالْمُبِينُ } (المائدة:92)، {مَّاعَلَىالرَّسُولِإِلَّاالْبَلَاغُۗوَاللَّهُيَعْلَمُمَاتُبْدُونَوَمَاتَكْتُمُونَُ} (المائدة:99 )

ومما نتعلمه مما سبق:

- حرص المحاور على حسن الخطاب، فلا يخاطب صاحبه الآخر بألفاظ تفتقد الاحترام والتقدير، مثل «أنت»، «يا فهيم»، ذكر اسمه دون كنيته، بل يحرص على مخاطبته بما يؤكد تقديره له واحترامه لشخصه؛ ولعل أفضل خطاب هو بكنيته.

- عدم الانشغال بالتفاصيل، والأشياء الصغيرة، بل يركز على جوهر الموضوع، ويصبر على هذا، فلا يستجر إلى الفروع والهوامش.

- الانتصار للحق وليس للنفس، وخاصة الداعية الذي يبتغي رضا ربه، ونصرة دعوته، ولا يبتغي مجدا شخصيا، ولا انتصارا لنفسه.

- الحذر الشديد من تحول الحوار إلى جدال، وذلك بالحرص على العمل بالأمور الثلاثة السابقة

1380 590x300

القاهرة - الوعي الشبابي:

لصلاة العيد مكانة عظيمة في الإسلام ، فقد أمر الله تعالى بها في قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الكوثر، وأناط بها فلاح المؤمن في قوله:  (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) الأعلى، وقد واظب رسول الله عليها وأمر بها، وأخرج لها حتى النساء والصبيان، وهي شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من مظاهره التي يتجلى فيها الإيمان والتقوى .

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال

Copyright © 2024 الوعى الشبابى. All Rights Reserved. Designed by arabmediahouse.net