- الأربعاء، 06 مايو 2015 09:11
- كتب بواسطة: adminkw
محمد شعبان أيوب:
من الجميل أن الحضارة الإسلامية ليست حضارة ذكورية كما يروج البعض ويدلي، فقد كان للمرأة دورها العظيم في عملية التربية والتعليم والتوجيه والتأديب، ولم يكن ذلك منوطًا بها في المنزل فقط، فلقد انتشرت المعلمات والمؤدبات في طول بلدان الخلافة الإسلامية وعرضها، قبل الشروع في الحديث عن دور المرأة في هذا العصر، أُحب أن نقارن بينها وبين مثيلاتها في أوربا في ذلك الزمن، وكيف تعلم هؤلاء الغربيون آداب التعامل مع المرأة واحترامها من خلال المسلمين، يقول المستشرق والطبيب الفرنسي جوستاف لوبون (1): "إن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، والإسلام – إذن – لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع، وإذا نظرت إلى سنيورات (2) نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتهم لم يحملوا شيئًا من الحرمة للنساء، وإذا تصفحّت كُتب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يُزيلُ كل شكّ في هذا الأمر، وعلمتَ أن رجال عصر الإقطاع كانوا غلاظًا نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهن بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ "غاران لُولُو هيران" عن معاملة النساء في عصر شرلمان، وعن معاملة شارلمان نفسه لهنّ كما يأتي: انقضّ القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال وأخذ بشعرها وضربها ضربًا مبرّحًا، كسر بقفّازه الحديدي ثلاثًا من أسنانها. فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربة في الوقت الحاضر لبدا هذا السائقُ أرقّ منه لا ريب. ومن الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب، كثرة من اشتهر منهنّ بمعارفهنّ العلمية والأدبية؛ فقد ذاع صيت عدد غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق، والعصر الأموي في إسبانيا" (3).
لقد صدق لوبون فيما أقره من حقيقة ناصعة تؤيدها جل المؤلفات التاريخية، التي – من المدهش – لم تفرق بين العلماء من الرجال والنساء، وكان السلف الصالح يفتخرون بمعلماتهم وشيخاتهم، كما يفتخرون بشيوخهم وعلمائهم، وذكروهم في فهرساتهم ومشيخاتهم ومعجامهم وتراجمهم وتواريخهم!
ولقد غصّت المدن الكبرى والصغرى وحتى البلدان النائية بالعالمات المربيات المجاهدات اللاتي مارسن حقهن الطبيعي والمعلوم في نهضة وتربية المجتمع الإسلامي في العصر العباسي، منهن عالمة دمشق ومعمرتها ملكة بنت داود بن محمد (ت507هـ) كانت عالمة في الحديث أخذ عنها جمع من علماء دمشق منهم شيخ العلامة المحدّث ابن عساكر أبو الفرج الصوري (4)، ومثلها ابنة زعبل البغدادية فاطمة بنت علي بن المظفر (ت533هـ)، سمعت من الحافظ عبد الغافر الفارسي، فكانت آخر من حدث عنه. قال الحافظ السمعاني: "امرأة صالحة عالمة، تُعلم الجواري (البنات الصغيرات) القرآن، سمعت من عبد الغافر جميع "صحيح مسلم"، و "غريب الحديث" للخطابي" (5).
والرائع أن بعض العلماء كانت بعض بناته تخلفه في تدريس العلوم، فهذا أحد علماء القرن الخامس الهجري أبو الوفا مبشر بن فاتك "كَانَتْ لَهُ ابنة عمّرت بعده، وروت بالإسكندرية أحاديث نبوية وَكَانَ فِي آخر المائة الخامسة للهجرة" (6).
وحتى في الأقاليم النائية والبعيدة عن مركز الخلافة وجدنا للمرأة حلقات للعلم والتوجيه، فقد روى الحافظ السمعاني وهو من كبار علماء الحديث في عصره (ت562هـ) عن الكثيرات واللاتي ذكرهن في موسوعته "التحبير في المعجم الكبير" منهن من اتخذت لها مكتبًا خاصًا مثل أم البهاء الأصفهانية، وكانت عالمة في القرآن والحديث، يقول عنها: "من أهل القرآن تعلم الصبيان القرآن ... كتبتُ (أي السمعاني) عنها ثلاثة أحاديث وكانت ولادتها في حدود سنة خمس وثمانين وأربعمائة" (7).
ومنهن من بقيت في بيت زوجها حريصة على تعليم وتأديب أطفال المسلمين مثل أم عبد الله العياضية (ت542هـ)، ومنهن من كانت تعطي شهادات تجيز فيها لطالب العلم مثل خديجة النيسابورية، التي قال عنها السمعاني: "من بيت العلم والصلاح والتزكية سمعت أباها إسماعيل ابن أبي عبد الرحمن ابن أبي عمرو البحيري وأبا عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحيري كتبت إلي الإجازة في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة" (8) ومن الجميل أن يرجع القارئ إلى كتاب السمعاني السابق، فهو يذكر فيه شيوخه وشيخاته، ليتعرف عن قرب على عشرات من النساء اللاتي كن لهن دور عظيم في مسيرة وقصة التربية الإسلامية بخلاف نظيراتها في العالم آنذاك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جوستاف لوبون (7 مايو 1841 - 13 ديسمبر 1931م) طبيب، ومؤرخ فرنسي، عني بالحضارة الشرقية. من أشهر آثاره: حضارة العرب وحضارات الهند و"باريس 1884" و"الحضارة المصرية" و"حضارة العرب في الأندلس".
( 2) جمع "سنيور" وهم السادة الإقطاعيون والملوك الأوربيون.
( 3) جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر ص403، 404. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م.
(4) ابن عساكر: تاريخ دمشق 70/127. تحقيق علي شيري، دار الفكر – بيروت، 1998م.
(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء 19/625. تحقيق حسين الأسد، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة التاسعة، 1413هـ = 1993م.
(6) القفطي: أخبار العلماء بأخيار الحكماء ص113. تصحيح محمد أمين الخانجي، دار السعادة - القاهرة، 1326هـ.
(7) السمعاني: التجبير في المعجم الكبير 2/401. تحقيق منيرة سالم، رئاسة ديوان الأوقاف – بغداد، 1975م.
(8) السمعاني: التحبير في المعجم الكبير 2/406.