الجمعة، 26 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

63 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

7 28 2015 8 39 06 AM

عبدالفتاح همام :

فقه المستقبل.. الفقه الاستئنافي.. الفقه الارتيادي.. فقه التوقع.. كلها مفردات عرفت طريقها إلى الخطاب الفقهي المعاصر، اختلفت ألفاظها وتقاربت معانيها، دالة على فقه قديم متجدد، أصيل الموضوع جديد المصطلح، سرى في رياض كتب الفقه وفروعه ومسائله، وإن لم يأخذ حقه من التأصيل والانفصال والتميز، وهو يلتقي مع ما يسمى قديمًا «الفقه الافتراضي»، ويتصالح مع ما يسمى حديثًا باستشراف المستقبل أو الدراسات المستقبلية، فهو الفقه المستشرف للنوازل والأحداث المتوقعة وأبعادها وآثارها ومحاولة تكييفها وتنزيلها على نصوص الشرع، أو هو الفقه الذي يراعي عنصر المستقبل وأحداثه ومتغيراته عند الحكم على قضية من القضايا الواقعة أو المتوقعة، ويمكن تحديد أهم عناصر هذا الفقه في محاور عدة:

 المحور الأول: ضرورة استحضار البعد المستقبلي والنظر المالي عند دراسة أي قضية، إذ يجب على الفقيه أن ينظر في عواقب فتواه ومآلاتها وآثارها السلبية والإيجابية من خلال تحقيقها للمصلحة أو المفسدة، أو بمعنى آخر لابد من أن يستدعى عنصر المستقبل عند محل التنزيل وتكييف المسائل.

المحور الثاني: معالجة الآثار الناجمة عن بعض الفتاوى التي غيبت النظر المالي الاستقبالي ، ومعالجة الغياب الفقهي وأثره في حياة الأمة، ويمكن أن نسمي هذا النوع من الفقه «فقه المراجعات» لإعادة النظر في كثير من القضايا، وخصوصًا التي تهم مستقبل الأمة، وإحياء هذه الفقه مهم جدًّا، لاسيما بعد انتشار ظاهرة التفاتي في الفضائيات، وإفتاء بعض الناس على الهواء مباشرة دون نظر لبعدي المكان والزمان لدى المستفتين، فضلًا عن دراسة أحوالهم وظروفهم.

المحور الثالث: أن الفقه الافتراضي توقع حدوث أمر من الأمور ثم تصويره تصويرًا سليمًا ثم محاولة تنزيله وتكييفه، ويتجلى العنصر المستقبلي في هذا النوع من الفقه من ناحيتين، الأولى أنه يعالج ما يتوقع حدوثه مستقبلًا، والثانية أنه يجب النظر إلى البعد المستقبلي للمتوقعات عند إعطائها الحكم الشرعي.

المحور الرابع: تقديم بدائل حضارية ورؤى إسلامية لكل جوانب الحياة، انطلاقًا من عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، لا سيما بعد أن جربت البشرية أغلب النظم الوضعية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا لتخرجها من التيه فلم تفلح.

والمتأمل في مصادر التلقي الشرعي، وكذلك في تراثنا الفقهي يجد أن أصول هذا الفقه ومناهجه مبثوثة في أرجائه وأنحائه، ولكنها تحتاج إلى من يخلصها ويرصدها ويسبكها في حبل فقهي متين، فقد راعى القرآن الكريم عنصر المستقبل، وحثنا على العمل لهذا المستقبل والاستعداد له، كما حذرنا من التقاعس والتكاسل عنه، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18)، وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، وقال جل وعلا: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء: 19).

وقد كان النظر إلى المستقبل وما يحدث فيه عاملًا مخففًا لبعض التكاليف على المسلمين، هذا ما قصه القرآن في سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (المزمل: 20).

ولقد راعت السنة هذا البعد المآلي والنظر المستقبلي، فمن ذلك مثلا امتناع رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  عن قتل المنافقين وقال: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».

فقد امتنع النبي  "صلى الله عليه وسلم"  عن قتل المنافقين– مع مشروعيته– لما يترتب عليه من آثار وعواقب في المستقبل تتنافى مع مقاصد الدين نفسه، إذ تحدث نفرة من هذا الدين وتشويهًا وصدًّا عن سبيل الله، فضلًا عن الاستغلال الإعلامي المغرض لهذا الحدث، ومنه أيضًا قول رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم»، فامتنع النبي  "صلى الله عليه وسلم"  عن إعادة بنيان البيت الذي هو لب ركن من أركان الحج نظرًا إلى مآلاته المستقبلية وعواقبه وما يترتب على ذلك من مفاسد.

والمنظومة المعرفية الأصولية قد اعتبرت الرؤية المستقبلية في خطتها، فقد قرر العلماء أن الأصل العام في الشريعة جاء لمصالح الناس في العاجل والآجل (الحاضر والمستقبل)، قال الشاطبي: «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا»

ومن أهم الأصول التي تشهد لاعتبار المستقبل اعتبار المآل «وهو أصل كلي يقتضي اعتباره تنزيل الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالًا»

وللشاطبي كلام جيد في تأصيل هذا الأصل إذ يقول: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل».

وسد الذرائع أيضًا مبناه على النظر المستقبلي، ولذلك بناه الشاطبي على قاعدة اعتبار المآلات، وحقيقة سد الذرائع تحريم أمر مباح يتوصل به إلى محظور.

وهناك عدة قواعد فقهية متناثرة ناقشها الأصوليون متعلقة بفقه التوقع منها: الأشياء تحرم وتحل بمآلاتها، والأمور بعواقبها، والعبر للمآل لا للحال، والمتوقع كالواقع، ولا يبطل التصرف إلا إذا ظهر قصده إلى المآل الممنوع، والضرر في المآل ينزل منزلة الضرر الحال، والزواجر لدرء المفاسد المتوقعة، وهل العبرة بالحال أو بالمآل؟ وما قارب الشيء.. هل يعطى حكمه؟ والمشرف على الزوال.. هل يعطى حكمه؟...إلخ.

وفي تراثنا الفقهي تجربة عملية لهذا الفقه بحاجة إلى تأمل وتأصيل، وهي تجربة السادة الأحناف، فلقد كان لأبي حنيفة وأصحابه تميز ظاهر في فرض المسائل وكثرة التفريع، قال الشيخ محمد الخضري: «إن فقهاء العراق اعتمدوا كثيرًا على قوة التخيل، فأدى ذلك بهم إلى أن أخرجوا للناس ألوفًا من المسائل، منها ما يمكن وجوده ومنها ما تنقضي الأجيال ولا يحس الإنسان بوجوده».

وروى الخطيب البغدادي أن قتادة بن دعامة دخل الكوفة فاجتمع إليه خلق كثير فقال: لا يسألني أحد عن مسألة من الحلال والحرام إلا أجبته، فقال له أبوحنيفة: يا أبا الخطاب ما تقول في رجل غاب عن أهله أعوامًا فظنت امرأته أنه مات فتزوجت ثم رجع زوجها الأول، فقال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا, قال: فلم تسألني عما لم يقع فقال أبوحنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه.

وثمة تساؤلات ملحة حول طبيعة العلاقة بين الفقه وهذه الدراسات المستقبلية أعتقد أن محاولة الإجابة عنها ومعالجتها ستفضي بنا إلى مرحلة الاستثمار والتفعيل لهذه العلوم، وهذا هو المقصود، من هذه التساؤلات: أهي علاقة تكاملية أم تأثيرية أم تبادلية؟ وما نقاط الالتقاء بينهما؟ وما أبرز وجوه الاختلاف؟ وهل يمكن للفقه الإسلامي استيعاب هذه الدراسات ليفيد منها؟ وكيف يمكنه أن يقدم طروحاته لهذا الدراسات المستقبلية، ليسهم في توجيهها وتقديم مناهج استشرافية مضبوطة متفق عليها، ومصوغة صياغة تتماشى مع ثوابتنا وتراعي متغيراتنا؟

ماجستير في الفقه الإسلامي - كلية دار العلوم جامعة القاهرة

7 28 2015 8 25 50 AM

عبدالمجيد إبراهيم :

عندما جاء الإسلام أراد أن يبني مجتمعًا متكاملًا، يقوم كل فرد فيه بدوره وعمله على أكمل وجه، ومن ثم جعل من أسسه أن يربي أبناءه على خلق تحمل المسؤولية، فخاطب رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  الأمة جمعيًا خطابًا عامًا يشمل الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، والرجال والنساء، بأن يلتزم كل واحد بصلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ولكن لما كانت هذه المسؤولية في حاجة إلى وعاء يشملها ومكان تنبت وتنمو فيه، خص من هذا العموم والشمول: الأسرة، بما اشتملت عليه من أب وأم وخادم، إذ هي نواة المجتمع، يولد الفرد في ضوئها، ويعيش في كنفها، ويتغذى من أخلاقها، ويرتوي برعايتها وتوجيهها، ويحيطه أمنها واستقرارها، إذ ليس الأمر فيها مقصورًا على توفير الطعام والشراب والملبس، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته»، وبناء على هذه المسؤولية العامة المطلقة، التي أكدها رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  مرة ثانية، ينبغي ألا ينسحب أي فرد في المجتمع من ميدان عمله، مادام مؤهلاً له، تحت أي ادعاء، أو يهرب منه خوفًا من المسؤولية، وإنما عليه أن يعلم أن الذي أوجبها عليه وهو الله ضمن له الإعانة والتيسير، قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى} (الليل: 5-7)، وقال  "صلى الله عليه وسلم" : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».

  ثم أراد الإسلام أن يضع بعض الضوابط التي تحقق هذه المسؤولية، وتجعلها تؤتي ثمارها وارفة على المجتمع، وذلك بدعوته إلى إتقان العمل، فقال  "صلى الله عليه وسلم" : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنة»، فهو يشمل كل أحد وكل عمل، وبذلك يسود الإتقان في المجتمع كله، فيصبح متكاملًا متعاونًا يقوم كل فرد فيه بما عليه حق القيام، وهو يشير- أيضًا- إلى أنه ليس على كل أحد أن ينشغل بعمله فقط، وإنما يطلب منه كذلك كيفية تجويده وتحسينه والارتقاء به، حتى يكون العمل جادًا ومثمرًا، وقد تكفل الله سبحانه وضمن الأجر العظيم على ذلك فقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} (الكهف: 30)، كما جعل من ضوابطه المراقبة، فقال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة: 105)، فأول المراقبين هو الله، مما يعني أنه ينبغي أن يكون المؤمن ملتزما في عمله من أعماق قلبه وقالبه، لأنه يستحيل عليه أن يجعل الله أهون الناظرين إليه، وإلا كان إيمانه ناقصا، ثم عطف المؤمنين على الله ورسوله، ليكون بمنزلة دعوة إلى إقامة الرقابة بعضنا على بعض في حدود الإسلام وضوابطه، وقبل الإتقان والمراقبة لابد من شرط الكفاءة، أي ليس فقط وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإنما ينبغي أن يختار المتخصص الكفء، الذي سيساعد على الإبداع في الإنجاز، وعلى الوفرة والجودة في الإنتاج، ويجب أن تكون هذه الشروط جميعا محاطة بسياج العدل، لأنه أساس الملك، وهو الذي يوجب تأييد الله وتوفيقه.

وفي ضوء هذا الهدي الإسلامي الرفيع من تحمل المسؤولية، عاش الأولون من المسلمين، فهذا أبوبكر الصديق الخليفة الأول  "رضي الله عنه"  يقول في خطبته بعد البيعة: «يأيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم القوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ويقول عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه" : «إني قد وليت أموركم أيها الناس، واعلموا أن هذه الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والفضل فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه، حتى أضع خده علىالأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم علي ألا أجتبي شيئًا من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسد ثغوركم، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم».

وهذا عمر بن عبدالعزيز، الذي ملأ الأرض عدلًا وكان للرعية أمنا وأمانًا وعلى من خالفه حجة وبرهانًا، قال مولاه له حين رجع من جنازة سليمان، مالي أراك مغتمًّا؟ قال: لمثل ما أنا فيه يغتم له، ليس من أمة محمد  "صلى الله عليه وسلم"  أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه، ولا طالبه مني.

ومما كتبه إلي ولي العهد من بعده يزيد بن عبدالملك: وقد علمت أني مسؤول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئًا، فعليك بتقوى الله، والرعية.. الرعية فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلًا حتى تلحق باللطيف الخبير.

فكل واحد منهم كان يبين مسؤوليته والتزامه بها تجاه رعيته، وحرصه على تحقيق مصالحهم جميعًا، الضعيف منهم والقوي، الكبير والصغير، بما يضمن لهم الأمن والاستقرار، ويحقق لهم العدل والمساواة، وفي الوقت نفسه كان يحمّل رعيته مسؤوليتها نحوه، طاعة أو تقويمًا، ونصحًا وإعانة، إذ ينبغي أن يكون من الشعب والرعية من تحمل المسؤولية مثل ما يكون من الراعي، سواء بسواء، وبهذا طالب عبدالملك بن مروان رعيته قائلًا لهم: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر، نسأل الله أن يعين كلًا على كل.

أيها القارئ، هذا عن المسؤولية مطلقًا باعتبارها صفة أساسية وخلقًا ملازما للمؤمن، فلاشك أننا في وقت الشدائد والأزمات أشد احتياجا إلى إحياء خلق المسؤولية

2811112

د.مسعود صبري :

يظل القرآن الكريم هو مصدر المعرفة الأول للمسلمين في شتى أنواع المعرفة والثقافة، فالقرآن الكريم كتاب هداية في المقام الأول، وتلك الهداية الربانية أوسع من دلالة الهداية عند الفقهاء والعلماء، فالهدى هو إصابة الطريق القويم في كل شأن من شؤون الإنسان؛ دينا ودنيا، فالبحث عن المعرفة الصادقة التي تدل الناس على الحقيقة طريقها القرآن الكريم، كما قال الله تعالى مخاطبا أهل الكتاب والأمم: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ  قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة:15-16).

من هنا، كان واجبا على المفكر المسلم أن يكون القرآن مصدر المعرفة الأول عنده، مع ما حوته السنة النبوية من حكم بالغة وهدي قويم، يضيف إليها من تراث الأمم وتجاربها ما ينير طريقه الفكري. وتظل الدراسات القرآنية معينا لا ينضب، وبحرا ماؤه لا ينتهي، كيف لا وفي الأثر عن القرآن: «ولا يخلق من كثرة الرد».

ومن الموضوعات التي تناولها القرآن وأعطاها أهمية موضوع: «اتباع الهوى»، واتباع الأهواء ليس محصورا على الأفراد الآحاد، بل هناك اتباع للهوى عند المجتمعات والأمم والشعوب والحكومات، لكن يبقى الداء واحدا، والخطر يختلف من آحاد المجتمع إلى مجموعهم من الدولة والمجتمع.

تعريف الهوى في القرآن

فالهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه. وهو بهذا المعنى لا يكون مذموما على الإطلاق، فتكون فيه القسمة العقلية من الهوى المذموم، والهوى المحمود، وهو ما يشهد له قول الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (القصص:50)، فبين القرآن أن هناك هدى من الله، وهو الهوى المحمود، وأن هناك هوى بغير هدى من الله.

حكمة الهوى

والحكمة من وجود الهوى في الإنسان وأن الله تعالى خلق الهوى فيه، أنه ضرورة لبقاء الإنسان، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل وإلى المشرب ما شرب وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه، فالهوى مستحلب له ما يفيد، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذي، فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق، وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضار (ذم الهوى، ص:12).

وإنما جاءت نصوص الشرع بذم الهوى، لأن غالبه ما يكون به الضرر على الإنسان، وأنه قل من الناس من يلتفت إلى مصلحة وجود الهوى مركبا في الإنسان، والحكم - كما يقول الفقهاء - يدور مع الغالب وليس مع النادر، بل أبان الله تعالى أن الكثرة من الناس هي التي تتبع الهوى، وأن القلة هي التي تتبع الحق من ربهم، كما قال سبحانه: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } (الأنعام:119). ولصعوبة مجاهدة الإنسان هواه، فقد وعد الله تعالى صاحبه بالجنة أن تكون مستقره ومأواه، تشجيعا لخلقه على مخالفة هواهم، فقال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} (النازعات:37-41).

ورغم كثرة الآيات التي تحدثت عن اتباع الهوى، فإنه يلاحظ أن حديث القرآن عن الهوى هو من باب الكليات لا الجزئيات، ذلك أنه ركز على القاعدة الأم من التحذير من اتباع الهوى، لأن تطبيقاتها كثيرة جدا، وتماشيا مع طبيعة القرآن الكريم من أن غالبه يركز على القضايا الكلية، ليترك التفصيل للسنة النبوية ولاجتهاد العلماء، حتى تبقى خصوصية القرآن كما هي من كونه الكتاب الخالد المشتمل على الألفاظ والعبارات المعجزة، فآياته مع صغر عددها، وكونها معدودة، لكن معانيها غير متناهية، وهي مراجعة واجبة فيما اشتهر عن الفقهاء من كون النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، بل الصواب عندي أن النصوص معدودة، لكن معانيها غير متناهية، فتستطيع تلك الآيات المعدودة بإعجازها أن تشمل ملايين الحوادث التي توصف بأنها غير معدودة، فمعاني الآيات أشمل وأكبر من الحوادث.

«وأنواع الهوى متعددة، وموارده متشعبة، وإن كانت في مجموعها ترجع إلى «هوى النفس وحب الذات»، فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء وحشد من الانحرافات، ولا يقع إنسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق والاسترسال في سبيل الضلال حتى يغدو الحق باطلا والباطل حقا والعياذ بالله. ويمكن رد خلاف أهل الملل والنحل ودعاة البدع في دين الله تعالى إلى آفة الهوى. ومن نعم الله على عبده ورعايته سبحانه أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حتى يضيء المولى سبحانه مشاعل الإيمان في قلبه، فتكشف زيف تلك المذاهب أو الأفكار أو المعتقدات، ذلك لأن حسنها في نفسه لم يكن له وجود حقيقي، بل هو وجود ذهني أو خيالي أو صوري صوره الهوى وزينه في النفس ولو كان قبيحا في واقعه أو لا وجود له إلا في ذهن المبتلى به» (أدب الاختلاف في الإسلام، العلواني، ص:27)

الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  أبعد الخلق عن الهوى

ولذم القرآن اتباع الهوى، فهو يقرر أن كل ما جاء في القرآن الكريم منقولا عن الله سبحانه وتعالى للبشر بواسطة جبريل إلى محمد  " صلى الله عليه وسلم" ، فهو كلام صادق لم يتبع فيه الرسول الهوى، فهو أبعد الخلق عن اتباع الهوى، حتى يكون قدوة للناس جميعا فيما يدعوهم إليه من ترك الهوى، وهو أولى خطوات نجاح الداعية أن يبدأ هو بنفسه، فكان  " صلى الله عليه وسلم"  أبعد الخلق عن الهوى المذموم، في قوله وفعله وكل أمره، كما قال: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:1-4).

حالات الإنسان مع الهوى

وللإنسان مع هواه ثلاث أحوال:

الأولى: أن يغلبه الهوى فيملكه كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } (الفرقان:43).

والثانية: أن يغالبه فيقهره مرة ويقهر مرة، وإياه قصد بمدح المجاهدين، وعناه النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بقوله: «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم».

والثالثة: أن يغلب هواه ككثير من الأنبياء وبعض صفوة الأولياء، وهذا المعنى قصد بقوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41).

وله قصد النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بقوله: «ما من أحد إلا وله شيطان وإن الله تعالى أعانني عليه حتى ملكته». فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه، والله أعلم بالحقيقة (الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص:91).

صفات ومخاطر اتباع الهوى في القرآن

وقد أبان القرآن الكريم عن كثير من صفات أصحاب الهوى، وحذر من عاقبته، وكشف لنا عن عدد من المخاطر التي تلحق بصاحب الهوى، ومن ذلك:

الاستكبار

فيشير القرآن الكريم إلى أن اتباع الهوى كان سببا في تسلل الاستكبار إلى نفوس الكافرين، فدفعهم إلى عدم الإيمان بالرسل، فكذبوهم، بل قتلوا بعضهم، كما حصل مع زكريا ويحيى - عليهما السلام - وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل، بل ينقل الإمام ابن القيم رحمه الله أنهم قتلوا سبعين نبيا في يوم واحد! فاتباع الهوى قد يؤدي إلى الكفر والقتل، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ  بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة:87-88).

وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا  كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ } (المائدة:70).

عبادة الهوى

إن صاحب الهوى يضل به هواه ويذله حتى يعبده من دون الله تعالى، كما قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (الفرقان:43). وقد قال علي بن أبي طالب  "رضي الله عنه" : «الهوى شر إله عبد».

وقد كان كفر الأمم السابقة وعبادة غير الله تعالى نتيجة لاتباع الهوى، فتلك الأصنام التي كانت تعبد من دون الله تعالى كان العرب يؤمنون أنها ليست الإله الحق، بل يزعمون أنها تقربهم إلى الله تعالى كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3).

ولهذا عاب الله تعالى عليهم عبادة تلك الأوثان بقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ  إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ  وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم:23).

ومازال البشر - حتى اليوم - يعبدون آلهة من دون الله، على اختلاف تلك الآلهة من الجمادات أو الأشخاص أو الأشياء، فاتباع الضلال والأسياد والكبراء، لأنهم أسياد وكبراء، نوع من العبادة، وقد أشار النبي  " صلى الله عليه وسلم"  إلى عبادة البشر في حديث عدي بن حاتم الطائي كما في الترمذي وابن ماجه: «ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال، فأطعتموهم؟». قالوا: بلى. قال: «فتلك عبادتكم إياهم». وقد عبد أهل مصر قديما حكامهم الفراعنة، حين قال لهم فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24)، مع كونهم يعلمون أنه بشر مثلهم، لكنه الهوى، الذي يطمس العقول ويعمي القلوب، ويجعل من الإنسان عبدا لمثله من دون أن يكون عبدا لله، فيصم عن سماع الحق، ويصر على الباطل، حتى لو ذكر بأنه باطل، فإنه يقول: ولو كان، فيتبعون أهواءهم بغير هدى من الله.

«إن خطر الهوى أنه يضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد، ويخبو نور اليقين لخوف الآخرة، إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئ أنواره، فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها، فلا يقدر على أن ينظر، وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار، ولو بصره واعظ، وأسمعه ما هو الحق فيه عمي عن الفهم وصم عن السمع، وهاجت الشهوة فيه، وسطا الشيطان، وتحركت الجوارح على وفق الهوى، فظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من عالم الغيب بقضاء من الله تعالى وقدره، وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ  إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ  بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) } (الفرقان:43-44) (إحياء علوم الدين، 3/47).

النكوص عن طريق الحق

وأصحاب الأهواء، الذين يصرون على مواصلة طريق الهوى، لا يثبتون على الحق، بل يحيدون عنه، حتى يصلوا إلى تكذيب آيات الله تعالى، وقد ضرب الله تعالى لمن اتبع هواه مثلا في القرآن، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ  فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث  ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا  فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) } (الأعراف:175-176).

القلب الغافل

ومن أخطر ما يصيب صاحب الهوى أن يصاب قلبه بالغفلة، فيران عليه، ويوضع بينه وبين قبول الحق حجاب مانع، وسد فاصل، وهوة كبيرة، فما استطاعوا - للحق - أن يظهروه، وما استطاعوا إليه نقبا يرون منه ولو بصيصا؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه  " صلى الله عليه وسلم"  والأمة بالصبر مع الصالحين الذين لا يريدون إلا وجه الله والدار الآخرة، وأن يلزمهم ولا يلتفت إلى أصحاب الأهواء، فقال جل في علاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (الكهف:28).

نسيان الآخرة

ومن المخاطر التي يقصها القرآن عن أصحاب الأهواء أن صاحب الهوى لا يفكر في الآخرة، فالدنيا هي همه الأول، وشغله الشاغل، فلا يفكر إلا في دنياه من جمع المال واكتساب الشهرة ونيل المناصب الدنيا، ثم هو لا يستعملها في طاعة الله، بل إذا ذكروا بها لم يصدقوا، ثم إنهم بعد ذلك يصدون الناس عن تذكر الآخرة، حتى يكونوا معهم سواء، وقد خاطب الله تعالى نبيه  " صلى الله عليه وسلم"  بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} (طه:15-16).

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح: «من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره في قلبه، وشتت عليه أمره، ولم يأته منها إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة أكبر همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة».

الضلال المبين

ومن نتائج اتباع الهوى أن يكون صاحبه في ضلال مبين، فالهوى يمنع صاحبه من اتباع الحق، فيزيغ عنه، حتى إن جاءته الدعوة الصادقة من نبي من الأنبياء، فإنه لن يصدقها، كما قال تعالى: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ  وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (القصص:50). وصاحب الهوى يضل على علم لا عن جهل، بل يجعل هواه إلها يعبد، فالهوى عنده مطاع، لا يرد له طلب، فلا يسمع إلا لهواه، ولا يرى إلا لهواه، ولا يرضي إلا هواه، فقام عنده مقام الإله، ومن شدة حبه لهواه فقد أضحى أعمى وإن كانت له عينان، فهو لا يرى بقلبه، ولا يبصر بعينيه، فأنى لهذا أن يعرف طريق الحق، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } (الجاثية:23)، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة:77). ومع هذا، فهو صاحب جهالة وضلالة، كما قال سبحانه: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ  وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (الروم:29). ومن يتبع أصحاب الأهواء يكن ضالا مثلهم، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } (الأنعام:56).

خسران ولاية الله ونصرته

ومن أضرار اتباع الهوى أن يخسر المؤمن ولاية الله ونصرته له، فيكله إلى نفسه يتخبط في كل اتجاه، لا يعرف صوابا من خطأ، ولا حقا من باطل، كما قال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } (البقرة:120)، بل لا يكون متبع الهوى في مأمن من عذاب الله تعالى، كما قال سبحانه: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد:37).

اتباع الهوى ظلم

ويعتبر القرآن اتباع الهوى ضربا من الظلم وغمض الحقيقة، إذ اتباع الهوى مغاير لحقائق الكون التي خلقها الله تعالى، وهو حيد عن طريقه الصحيح الذي فيه صلاح الإنسان، وقذف به إلى الهواية، وبذا، يظلم صاحب الهوى نفسه ومجتمعه وأمته، لما يصيبه وغيره من الضرر، كما قال تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ  وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ  وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِي} (البقرة:145).

التحذير من اتباع الهوى في الحكم

وقد حذر الله تعالى من اتباع الهوى، خصوصا في الحكم بين الناس، وذلك باتباع أهواء الناس في الحكم بينهم، وأن ندع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أو ما قاله بعض السفهاء من كلمة الكفر: «ما دخل الله تعالى بالسياسة!»، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، أو بتحكيم الشرائع المناقضة لشرع الله تعالى، وذلك بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ  فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ  إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة:48).

أما التشريع في غير ما يصادم أحكام الله تعالى القطعية، أو ما يتعلق بسن القوانين الإدارية ونحوها، فليس اتباعا للهوى ولا حكما بغير ما أنزل الله تعالى.

إن القرآن يلح على أن تنتفي سيطرة أهوائنا في أحكامنا، فهي شر وثن يتبع، كما قال الشيخ دراز، (دستور الأخلاق في القرآن، ص:484). ولذا، خاطب الله المؤمنين بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ  إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا  فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا  وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (النساء:135).

كما خاطب داود عليه السلام بقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (ص:26). فإن كان اتباع الهوى محرما، فإنه في حق الحاكم المسلم أشد حرمة.

الوقوع في الفتن

وصاحب الهوى يقع دائما في الفتن، فحياته ليست مستقرة، ولا يعرف للراحة طعما، ولا للسعادة طريقا، بل هو متخبط في حياته، يتيه في غيابات الفتن ما ظهر منها وما بطن بقدر تعلقه بالهوى، كما قال جل في علاه: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49).

فساد السماء والأرض

ويجيء خطاب القرآن الكريم في ذروته محذرا من الهوى، مصورا إياه بأبشع صورة، فاتباع الهوى مفسد للحياة بأسرها، كما قال تعالى: {َلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ  بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} (المؤمنون:71).

فلو أعطي كل إنسان ما يهوى - مع أن كل واحد يهوى أن يكون أغنى الناس وأعلاهم منزلة، وأن ينال في الدنيا الخير الأبدي بلا مزاولة (ولا يعلم أنه أعطي ذلك) لكان فيه فساد العالم بأسره. (الذريعة الى مكارم الشريعة، ص:93). ويقول الإمام ابن القيم (إعلام الموقعين، 1/72): «وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم الفساد».

الهوى المحمود

ورغم أن غالب حديث القرآن جاء في ذم الهوى والتحذير منه، إلا أنه في ثنايا ذكره ذم الهوى يلفت الانتباه إلى الهوى المحمود، وهو من أعلى مقامات العبد، لا يصل إليه إلا الأنبياء والصالحون من عباد الله تعالى، ويشهد لذلك قوله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50)، فبمفهوم المخالفة ومن أهدى ممن اتبع هواه بهدى من الله تعالى، وهو إنصاف القرآن وعدله، ولو كانت نسبة من يتصف هواه بالمدح قليلة نادرة، لكن القرآن أثبتها.

كما يشهد لها حديث النبي  " صلى الله عليه وسلم"  الذي صححه الإمام النووي: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

22201

عبدالباقي يوســف :

نقف بشيء من التحليل مع كلمة «الأرحام» الواردة في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ " (آل عمران:6) يفصلكم، ويشكل تكوينكم "فِي الْأَرْحَامِ " التي هي موضع تصويري لكم، رحم المرأة، من هذا الموضع تبدأ رحلة رحمة الأم بوليدها، إنها تربيه في رحمها، وهو يدغدغ رحمها، وكلما تنظر إليه نظرة، تذكر بأنه نبت في رحمها، وهذا يزيدها رحمة وشفقة به، مهما بلغ من الخشونة فيما بعد، ولذلك فإنها تكون أكثر رحمة به من أبيه.

والرحم، من مشتقات الرحمة، والله رحمن رحيم، يقول في الحديث القدسي: «أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» (1).

إن تكوين الإنسان في الرحم، يجعله مائلا إلى التراحم، وكذلك إلى صلة الرحم، وصلة الرحم تعني أن تتواصل مع من جمع بينكم الرحم الواحد، والذي تتفرع منه فروع، وهذا ما نعبر عنه بـ «الأقارب»، فيحضك الإسلام على أن تكون على صلة بأقربائك.

يقول النبي  " صلى الله عليه وسلم" : «إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل، وشحمه ولحمه من مني المرأة‏». ومما ورد من حديث ثوبان في صحيح مسلم:‏ «أن اليهودي قال للنبي  " صلى الله عليه وسلم" ‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض، إلا نبي أو رجل أو رجلان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ينفعك إن حدثتك‏)‏‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ أسمع بأذني، قال‏:‏ جئتك أسألك عن الولد‏.‏ فقال النبي  " صلى الله عليه وسلم" ‏:‏ ‏(‏ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله‏».

وثمة أحاديث عديدة تبين كيفية تأسيس الإنسان في الرحم، وكذلك تبين المسار الذي سوف ينتهجه هذا الجنين في حياته، مما يبين علم الله بالغيب.

يقول النبي  " صلى الله عليه وسلم" : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك»، أو قال: «يبعث إليه الملك بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد»، قال: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه غير ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (2).

تبين هذه الأحاديث بأن تكوين الإنسان الأولي يكون في رحم المرأة، والإنسان يأخذ من أمه أكثر مما يأخذ من أبيه، وتبذل أمه جهدا به أكثر مما يبذل أبوه، ولذلك لايكون للرجل أن يحرم الأبناء من أمهم، أو يحرم الأم من أبنائها، وهو يقرر الانفصال عنها، أو طلاقها، وهذه المسألة عليها أن توقفه كثيرا قبل أن يتخذ قرارا مصيريا كهذا، وألا يرجح كف أنانيته، أو مصلحته الشخصية، أو راحة باله على أساس هذا الحرمان الذي هو ظلم كبير بالأولاد، وبالأم أيضا، إلا في حالات استثنائية، وهي أن الأم يمكن لها أن تفسد الأبناء، وهذا ما لا يحدث إلا في حالات شديدة الاستثنائية، لكن على الأغلب فإن الأب يقرر هذا الحرمان، كي يحقق لنفسه راحة من المرأة التي اكتشف بأنه غير سعيد معها، بعد أن أنجب منها، أو أنه يريد أن يتزوج بأخرى، ولذلك ترى بأن الطلاق هو ليس بغيضا فحسب عند الله، بل هو أبغض حلاله عنده، وكذلك فهو أبغض حلال الله عند الناس، بسبب ما تترتب على هذا الطلاق من سلبيات بحق الأبناء.

فإذا نظرنا إلى عملية ضرب الأبناء، نرى بأن الابن لا يشعر بأن أمه ضربته وهي تضربه بالفعل، لأن التي تضربه، إنما هي التي نبت في رحمها، وهي تضربه برحمة ما نبت في رحمها، بيد أن الابن يشعر بأنه ضرب بالفعل عندما يضربه أبوه.

من هنا، فإن الانتكاسات الأولية تتشكل في بنية الطفل على قدر ما يتلقى الضرب، أو الإهانة، أو التوبيخ، من أبيه، وليس من أمه، وهو من شأنه أن ينمي لدى الطفل شعور النقص، أو عقدة الدونية.

وإذا كان ضرب الأب للابن يأتي بنتائج سلبية في مراحل تربيته، فإن ضربه للابنة يكون أكثر سلبية، ذلك أنها تمتلك رحما خرج من رحم، وهذا ما يجعلها أكثر رقة وشفافية من أخيها، لأنها تعد لتكون أما، في حين يعد أخوها ليكون أبا، وهي عندما تكبر تبقى محافظة على مساحة الرحمة في قلبها، كي ترحم به جنينها، وهو في رحمها، ثم كي ترحمه به وهو يكبر يوما بيوم على صدرها، في حين أن الابن الذي يغدو رجلا يملك أن ينزع الرحمة من قلبه، وأن يقسو، بل حتى يمارس القتل بأقسى ألوانه، لكن المرأة وهي تشاجر امرأة، قد يبلغ بها الأمر أن تشد شعرها، أو تعضها، وينتهي الأمر عند هذا الحد، لأن ذلك جل ما يسمح به رحم المرأة لها، لكن الرجل عندما ينقض على رجل، قد يفتك به، ويبلغ به مرحلة القتل، لهذا نرى بأن أول جريمة في التاريخ الإنساني لم ترتكبها المرأة، بل ارتكبها الرجل بحق الرجل، وإذا صدف وأخطأت الابنة خطأ فادحا، فإنها تخبر أمها، أو أختها، أو حتى خالتها، أو عمتها، وهي تأمن رحمها، ولا تخبر الأب، أو الأخ، أو أي رجل في العائلة، لأنها لا تأمن رعونته، ورد فعله، وحتى في جرائم الشرف، فإن الرجل يقوم بها، حتى لو كان صغيرا، وقتل أخته التي نبتت معه في ذات الرحم، ولا تقدم عليها المرأة مهما كانت كبيرة، رغم أن المرأة هي الأكثر ضررا نتيجة خطيئة الابنة، والرجل هو الأقل ضررا نتيجة ذلك، فأول ما يصيب الأذى، أمها، ثم أخواتها، ثم من هن على صلات رحم بها، حيث قد يطال الأذى مستقبلهن ويعيقهن في الزواج، لكن ذلك لا يطال مستقبل الرجل، ولا إعاقته في الزواج مهما كان مقربا منها، ولذلك فإن الجرائم الكبرى والصغرى، على الأغلب يرتكبها الرجال. وما يلحقه الرجال من أهوال وكوارث بالإنسان والطبيعة، لهو أكثر مما تفعل النساء، والرجال عادة هم الذين يقررون الحروب الكبرى، في حين أن النساء يبكين فلذة أكبادهن الذين تودي تلك الحروب بهم. ثم عقب ذلك قال الله تعالى: { كَيْفَ يَشَاءُ} معنى ذلك أن له المشيئة في خلق هذا الإنسان، سواء أجعله أبيض، أو أسود، قصيرا، أم طويلا، ذكرا، أم أنثى. ثمة حديث نبوي بهذا الصدد يقول: «إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ أن يخلق، بعث الله ملكا يصورها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصورها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسد، دفن حيث أخذ ذلك التراب».

{لا}

نفي مطلق

{إله}

رب

{ إلا}

دون

{ هو} الله الواحد الأحد الذي لا شريك له، المتفرد بأنه إله الخلق جميعا، وقد ورد في هذا المقام اسم الله الحسن.

{ العزيز}

الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو على كل شيء قدير، وهذا تذكير للناس بأنه قادر أن يعز من يشاء، وقادر أن يذل من يشاء، وقد قال قبل ذلك في ذات الآية: { كَيْفَ يَشَاءُ}، ثم جاء اسم الله تعالى الحسن.

{ الحكيم }

وفق حكمة إلهية خالصة في الخلق لا يعلمها إلا الله، وهي آيات لأولي الألباب ليتفكروا بها، ويأخذوا منها العبر، كونها تبين للناس بأن مشيئته جل وعلا لا تأتي عبثا، بل هي لحكمة إلهية خالصة، تسري في خلقه، وهم وفق هذه الحكمة يخرجون من ظلمة الرحم وسكونه، إلى ضوء الحياة وضوضائها، والسعي في مناكب الأرض.

يبين ذلك بأن كل مخلوق إنما هو حكمة من حكم الله تعالى، ولا شيء لا لزوم له في الحياة، فإن مات جنين في رحم أمه، فهي حكمة مقدرة من الله تحمل رسالة لأولي الألباب في زمانها ومكانها وأشخاصها، وإن عمر هذا الرجل ماشاء الله، فهي حكمة مقدرة من الله، تحمل رسالة لأولي الألباب في زمانها ومكانها وأشخاصها.

الهوامش :

1- أخرجه الترمذي، وصححه، عن عبدالرحمن بن عوف.

2- رواه البغوي في تفسيره.

3- أورد الطبري هذا الحديث في تفسيره، وأخرجه الترمذي، وصححه، عن عبدالرحمن بن عوف.

4- رواه البغوي.

11 8

د.صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان:

صلاة العيدين - عيد الفطر وعيد الأضحى - مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان المشركون يتخذون أعيادا زمانية ومكانية، فأبطلها الإسلام، وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى؛ شكرا لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين: صوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال