الثلاثاء، 03 أكتوبر 2023
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

البخاري.. أمير المؤمنين في الحديث

د.محمد صالح عوض - عضو المجمع العلمي لبحوث القرآن والسنة: إن الحياة في ظلال الحديث الشريف، نعمة ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

87 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

6 4 2015 9 52 12 AM

د.عبد الرحمن العيسوي:

في التعريف العلمي للضمير الأخلاقي (conscience) كان يعتقد قديمًا في الإطار اللاهوتي أن الضمير الأخلاقي عبارة عن ملكة فطرية أو موروثة أو ملكة يغرسها الله في الإنسان (facuulty)، وتساعد هذه الملكة الفطرية صاحبها في الحكم الصائب في المسائل أو الأمور أو القضايا الأخلاقية (moral issues) كفكرة الحق والصواب والعدل والحلال والحرام وما إلى ذلك.

في إطار مدرسة التحليل النفسي تعبر الذات العليا في الإنسان (Superego) عن الضمير الأخلاقي والذات العليا- وفقا لمفاهيم التحليل النفسي- هي أحد العناصر المكونة للشخصية الى جانب عنصر الذات الدنيا (id) والذات الوسطى (ego)وتختص الذات العليا هذه بالأمور الأخلاقية والروحية والمثالية، فهي مستودع القيم والمثل العليا والمعايير الأخلاقية. 

ولكن يلاحظ أن الذات العليا هذه مكتسبة من خلال خبرات الطفولة الباكرة، بمعنى أنها تتكون لدى الطفل من خلال ما يلقاه من الأوامر والنواهي وما يلقاه من الثواب والعقاب على أفعاله، أي عن طريق التعلم أو عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية.

وبذلك يلعب الوالدان دورًا حاسمًا في تكوين الضمير الأخلاقي لدرجة القول بأن الذات العليا هي «البديل» عن الأم وعن الأب «لأنهما المسؤولان عن غرسها أو زرعها في حس الطفل وفي وجدانه أو شعوره، وعلى ذلك فإن الذات العليا تقوم بذات الوظائف التي يقوم بها الضمير الأخلاقي في الإنسان، والذات العليا هي مستودع القيم والمثل والمبادئ والقواعد والمعايير الأخلاقية كالفضيلة والعفة والشرف والأمانة والصدق (moral valuues) (1)، حيث تساعد الفرد على قبول أو رفض سلوكاته أو تصرفاته.

في ضمير الإنسان تتكون مجموعة متماسكة أو مترابطة من المبادئ الأخلاقية الداخلية أو الذاتية أو المستدخلة (internalized moral principles). تلك المبادئ التي تمكن الإنسان من تقدير أو معرفة الصواب من الخطأ أو الحق من الضلال والفساد أو الحلال من الحرام، وذلك بالنسبة للأفعال أو التصرفات أو السلوكات التي يقوم بها الفرد أو التي يفكر فيها، وكأن الضمير يحمل صوت الله فينا، ولذلك يعد الضمير من هذا المنطلق قدرة فطرية (lnnaate).

وفي إطار علم النفس الحديث، فإن مجموعة النواهي ومجموعة الواجبات أو الممنوعات والمباحات هي أمور متعلمة أي مكتسبة من خلال البيئة التي يعيش في كنفها الفرد.

فالضمير هو الذي يحدد لصاحبه الممنوعات (prohibition) والواجبات التي يتعين عليه القيام بها (2) (obligations)، والضمير هو مستودع ما لدى الفرد من المعايير الأخلاقية والمثالية التي تجعله يرضى عما يقوم به من أعمال أو تصرفات أو سلوكات أو أفعال أو ما يود أو ينوي القيام به قبل القيام به، تجعله يرضى أو يرفض هذه السلوكات وينكرها، والضمير هو القدرة على إصدار الأحكام على ما يقوم به الفرد أو ما ينوي القيام به قبل القيام به (3). فالضمير يحكم على السلوك سواء قبل القيام به أو بعد القيام به.

وظيفة الضمير الأخلاقي

يشبه ضمير الإنسان بأنه «السلطة الذاتية الداخلية» الكامنة في الإنسان، سلطة الردع والمحاسبة وإنزال العقاب بصاحبه إذا ما اقترف إثماً أو قام بعمل محرم أو غير أخلاقي، ينزل الضمير العقاب بصاحبه على شكل لوم الذات أو الشعور بالذنب (feelling of guilt)، والإثم والندم أو تأنيب الذات، وهو ما يعرف باسم تأنيب الضمير، والضمير بذلك يقوم بعمل «القاضي» الذي يحاكم ويحاسب ويردع ويعاقب، ومن هنا يوصف ضمير الفرد بأنه ذلك «القاضي الصغير» الذي يكمن داخل كل منا، وهذا القاضي قد يكون حاسمًا وحادًا ويقظًا وقد يكون فاترًا ومتساهلًا وضعيفًا.

والغريب في أمر هذا «القاضي الصغير» أنه يحاسب صاحبه حتى في غيبة السلطات الخارجية كالشرطة أو القضاء، بل إنه يحاسب صاحبه حتى عندما يكون واثقًا من أن أمره لن ينكشف، ذلك لأن الضمير قوة داخلية تكمن في داخل كل منا.

وإلى جانب وظيفة الردع والعقاب هذه، فإن الضمير يقوم بوظيفة أخرى تشبه وظيفة «رجل الشرطة»، فكأن الضمير رجل شرطة صغير يكمن داخل كل منا، مهمته منع وقوع الخطأ قبل وقوعه أو منع السلوكات المحرمة أو المجرمة أخلاقيًا أو الممنوعة بالضبط، كما يمنع رجل الشرطة الجريمة قبل وقوعها، وهنا يمنع الضمير الحي صاحبه من الإتيان بالأعمال المحرمة أو المؤثمة قبل حدوثها، وكأنه يقوم بعمل «الشرطي الصغير» داخل الإنسان، ويشبه عمل الضمير هنا أيضا عمل رجل الجمارك الذي يمنع دخول المواد الممنوعة أو الخطرة أو الخطيرة إلى داخل البلاد، وهنا يقوم الضمير مقام الرقيب الذي يمنع حدوث المخالفات الأخلاقية قبل وقوعها حتى وإن كان الإنسان متأكدًا من أن أمره لن ينكشف للسلطات الخارجية، ففي الإنسان سلطة ذاتية هي الضمير.

وعلى ذلك نتوقع أن الضمير الحي الوخاز يعمل على منع تفشي مظاهر الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبية والتربح والغش والضلال والظلم والقهر والاستبداد والعنف وما إلى ذلك من المفاسد. تلك الظواهر التي أصبحت تهدد كثيرًا من مجتمعات العالم، إلى جانب جرائم استغلال النفوذ والإضرار بالمال العام وهدره واستغلال السلطة، وخصوصا عندما تجتمع الثروة والسلطة في يد شخص واحد ضعيف الضمير، الضمير هو الحامي الحقيقي والحارس الحقيقي لبسط العدالة والقضاء على الفساد.

ولذلك كم نحن في حاجة ماسة الى إحياء ضمائر الناس وخاصة تلك «الضمائر الغائبة» أو الميتة أو الضعيفة والتي أصبح من ثمارها ظواهر سلبية مثل الدروس الخصوصية والارتشاء والغش والغلاء والثراء الفاحش، والفساد المالي والإداري والسياسي والاجتماعي تستطيع الدولة أن تضع شرطيًا على رأس كل مواطن، ولكنها تستطيع أن تنمي ضمائر الناس وتوقظها وتغرسها في عقول الناس وفي وجدانهم ومشاعرهم.

كيف يتكون الضمير؟

إذا كان للضمير كل هذه الأهمية فمن الجدير البحث في نشأته أو تكوينه، وكيف يصبح حيًا ويقظًا وحارسًا أمينا لسلوك صاحبه في السر والعلن، إننا اليوم في مسيس الحاجة لإحياء الضمائر وإيقاظها وتنميتها وتقويتها وتدعيمها في الإنسان، وذلك يبدأ منذ الطفولة الباكرة، حيث يتكون ضمير الطفل عن طريق ما يتلقاه الطفل من الأوامر والنواهي والنصائح والتوجيهات والارشادات والتوعية من الوالدين في أول الأمر، ثم من الكبار عامة كرجل التعليم ورجال الدعوة والوعظ والإرشاد ورجال الإعلام والكتاب والمصلحين في المجتمع والقادة والزعماء، حيث يتقبل الطفل أولا هذه الأوامر على أنها صادرة من خارجه وأن عليه أن ينفذها، وبمرور الوقت يمتص الطفل هذه القيم ويكتسبها ويهضمها ويستوعبها أو يستدمجها في ذاته أو يستدخلها في كيانه، وتصبح بمرور الوقت قيمه هو ومعاييره هو، بمعنى أنها تصبح جزءًا لا يتجزأ من كيانه الشخصي.

وتلعب عملية التنشئة الاجتماعية الصالحة دورًا رئيسًا في غرس هذه القيم وترسيخها وزرعها في كيان الطفل، ذلك لأن عملية التنشئة الاجتماعية هي العملية التي تكسب الإنسان إنسانيته، وتجعله مواطنًا صالحًا، حيث يكتسب عن طريقها القيم والمثل والعادات والتقاليد والمعايير والقواعد والنظم والأعراف السائدة في المجتمع، وإذا كانت عملية التنشئة الاجتماعية (socialization)صالحة شب الطفل مواطنًا صالحًا، ومعظم حالات الإنحراف والحالات المرضية نفسيًا ترجع إلى حدوث خلل في عملية التنشئة الاجتماعية.

والضمير يتكون من خلال جهود المسجد ورجال الدعوة والوعظ والإرشاد ورجال الدين عامة، وتسهم في تكوينه مؤسسات اجتماعية من أهمها مؤسسة الأسرة والمدرسة والجامعة والقرآن والزملاء والأنداد.

وعلى الجملة يتكون الضمير من خلال توافر القدوة الحسنة والمثال الطيب أو النموذج الطيب الذي يقتدى به، ويتكون الضمير وينمو من خلال الهدي الإسلامي المبارك وما فيه من قيم يتم غرسها في الطفل وترسيخها مثل القيم الآتية:

1- الحق

2- العدل

3- المساواة

4- الرحمة

5- الشفقة

6- البر

7- الإحسان.

8- الصدق.

9- الولاء.

10- الوفاء.

11- الإخلاص.

12- الطهر والطهارة.

13- العفة.

14- الشرف.

15- الأمانة.

16- الولاء

17- الإخاء

18- الكرم

19- الجود

20- الرجولة

21 - الشهامة

22- إغاثة الملهوف.

23- نصرة المظلوم.

24- النبل.

25- التضحية والفداء.

26- الجهاد.

27- الكفاح.

28- النضال.

29- الحب في الله.

30- الرفق والأناة.

وإسلامنا الحنيف حافل بكل هذه القيم والمثل والمعايير، ولذلك يحيط الهدي الإسلامي المبارك بالمسلم منذ نعومة أظفاره حتى حماه بالرعاية والحماية والتوجيه والنصح والإرشاد والتعليم والتربية.

ويوفر إسلامنا الخالد لنا معشر المسلمين القدوة الحسنة والمثال الطيب الذي يقتدى به وهو رسولنا الكريم والذي وصفه رب العزة والجلالة بالقول {إنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4)، وما أحوجنا نحن المسلمون في هذه الأيام إلى القدوة الحسنة التي يقتدي بها الشباب والتي تربيهم على خلق الإسلام وعلى أساس من الهدي الإسلامي المبارك.

يربط القرآن الكريم بين فضيلة الإحسان والتقوى ويدعونا إليهما كما في قوله عز وجل: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير} (النحل: 30)، كما في قوله تعالى: {وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} (النساء: 128).

ورسولنا العظيم يمثل القدوة الحسنة والمثال الطيب فهو المعلم والمرشد والموجه لأمته، وللمسلمين فيه أسوة حسنة كما في قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21).

وفلسفة الحساب والعقاب والثواب في الهدى الإسلامي توفر أعظم دافع للإنسان المسلم كي يخاف الله وكي يوقظ ضميره ويبتعد عن الرذائل والفواحش والخبائث ما ظهر منها وما بطن. ذلك لأن المسألة ليست فوضى وليست عماء، وإنما كل شيء بقدر وسلوك الإنسان محسوب عليه وسوف يلقى حسابه في الدار الآخرة، وكذلك يشجع الإسلام ويحث ويحض أبناءه على التحلي بالسلوك القويم والأخلاق الحسنة ويحثهم على التمسك بالفضائل الإسلامية وأداء العبادات وكلها تقود إلى تقوية الضمير وتقوية الشعور بالمسؤولية والخوف من الحساب والعقاب.

ومن سمات الإنسان صاحب الضمير الحي توخي العدل والعدالة في كافة مناحي سلوكه وتصرفاته. وإسلامنا الحنيف يهدي إلى الالتزام بالعدل في تربية الأبناء وعدم تفضيل واحد منهم على سائر أشقائه، وبذلك يتربى الطفل، منذ الصغر، على خلق العدل والمساواة لأنه تربى عليها ولم يلحقه الظلم من الوالدين.

وعن هذا الهدي البليغ يقول الحديث النبوي الشريف الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"   فقال إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"   «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"   فارجعه».

كذلك ينهى الإسلام المسلمين عن الهجران أو الخصام بين المسلمين. ولعل من يشعلان نار الحرب بين المسلمين أن يتذكروا قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (الحجرات: 10) ونهى القرآن الكريم عن الإثم والعدوان كما في قوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2).

والمسلم الحق منهي عن المقاطعة والخصام مع أشقائه في الإسلام لقول رسولنا الكريم «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (متفق عليه).

وينهانا إسلامنا العظيم عن كل المفاسد والرذائل والفواحش والجرائم، ومن ذلك النهي عن الحسد وعن التجسس وعن سوء الظن أو الاحتقار أو إظهار الشماتة بالمسلمين وعن الغش والخداع والغيبة والنميمة والغدر، والظلم والطغيان، والبغي إلى جانب تحريم الربا وأكل مال اليتيم وتحريم الزنا، وكذلك سائر الجرائم والآثام كالقتل وسفك الدماء والسرقة والضرب والاعتداء وأكل حقوق الآخرين أو استغلالهم وابتزازهم وهدر حقوقهم.

وصاحب الضمير الحي يكره التعذيب أو الإيذاء. وإسلامنا الحنيف ينهانا عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد. وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم {وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا} (النساء: 36).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"   قال: «عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (متفق عليه)، أي تأكل من الهوام والحشرات في الأرض.

ويربي الإسلام المسلم على الإيمان بأن المؤمنين إخوة، وبذلك يزرع مشاعر الإخاء في قلوب المسلمين وكذلك التراحم والتواد والشفقة بينهم كما في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: 10).

وكم نحن في حاجة في هذه الأيام إلى تنمية روح الإخاء بين المسلمين والذين يدب الخلاف بينهم للأسف الشديد لأتفه الأسباب، فلا ينبغي أن يشهر المسلم سيفه في وجه أخيه المسلم، قال تعالى {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: 54)، ويربي الإسلام أبناءه على الشعور بالعزة والكرامة والافتخار بأنهم سلالة أمة كانت بحق خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفاء رحماء بينهم} (الفتح: 29).

ويربي الإسلام أبناءه على التعاون على البر والإحسان وعلى التقوى وخشية الله تعالى كما في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2).

وهناك دعوة جماعية إلى تكاتف وتضامن وتساند وتعاون المسلمين بشكل جماعي كما في قوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104).

فالمسلم ليس مطالبًا فقط بأن يصنع المعروف وإنما عليه أن يدعو إلى ذلك، والى كراهية المنكر والبغي والظلم والفساد. وهنا تبدو إيجابية الشخصية الإسلامية، فعلى المسلم تقع مسؤولية نشر العدل والرحمة والتعاون والإخاء.

والمفروض أن تسود المودة بين المسلمين كما في قوله تعالى {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: 76).

والمسلم ليس مطالبًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسب ولكن أعماله يجب ألا تخالف أقواله مما يدل على غياب ضميره الأخلاقي، وذلك كما في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44) وهنا يربط القرآن الكريم بين قوة الضمير والتفكير أو التعقل.

ويحض الإسلام المسلمين على أن يتحلوا بالأمانة وبأداء الأمانات كما في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء: 58).

والإنسان صاحب الضمير الحي يتصف بالأمانة والعدل والعفة والنزاهة.

والإنسان إذا غاب ضميره أصبح ظالمًا معتديًا وإسلامنا ينهانا عن الظلم كما في قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر: 18)، وقوله أيضًا: {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} (الشورى: 8).

فالإسلام يربي ضمائر الناس ويظل يوقظها ويحرك دوافع الخير في الإنسان.

المراجع:

1- القرآن الكريم.

2- بدوي أحمد زكي، (1986)، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت.

3- محمد فؤاد عبدالباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

4- رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين.

5- English, H.B.and English. A.C. (1958), A comprehensive dictonary of psychological and psychoanalytical terms, Longmans, London.

jo1jo.com7840

محمد إلهامي :

في يوم جمعة، وقعت حادثة استحقت أن تنزل فيها آيات، إذ كان النبي ص قائما يخطب، فأقبلت عير فيها تجارة، فانطلق الناس إليها حتى لم يبق مع النبي ص إلا اثنا عشر رجلا. (البخاري ومسلم).

نزلت سورة الجمعة، التي هي– كما كل الآيات القرآنية- لا تعالج الموقف لذاته فحسب، بل تعطي الأمة توجيها خالدا في كل عصورها، ولذا فإن النظر إلى سورة الجمعة بعين تقصد أن ترى المعنى الحضاري فيها يُفضي إلى نتيجة جديدة تماما، لم تنل حظًّا من أهل التفسير على حد ما أعلم، وإن ظهرت في سياق تفاسيرهم بشكل مُجزَّأ، تلك هي أن سورة الجمعة إنما نزلت لتُذَكِّر الجماعة المسلمة بتميزها الحضاري، ولتُوَضِّح معالم الحضارة الإسلامية.

التأمل في سورة الجمعة يكشف لنا رؤية أقسام ثلاثة واضحة، متمايزة ومترابطة:

1- أن هذه الأمة المسلمة هي غرس رباني.

2- وأنه معهودٌ إليها أن تستفيد من سيرة التاريخ، وأن تصحح مسيرته.

3- وأن تنتبه إلى رسالتها في الحياة فتملك الدنيا دون أن تملكها الدنيا.

لقد بدأت قصة الإسلام فجأة، لم يكن ثمة ما يشير إلى أن هذه البقعة المهملة في خارطة التاريخ والجغرافيا آنذاك قد تكون ذات أهمية يوما ما، فتلك بلاد قبلية، أهلها أميون، يعيشون جاهلية في الأفكار والأعمال، ولا يفكرون في إنشاء حضارة.. ولهذا كان انتقالهم المفاجئ نحو التوحد والسيادة على الجزيرة ثم مجابهة الكبار: فارس والروم، ثم امتلاك ناصية العلوم والحضارة، كل ذلك كان بتدخل رباني محض، نعمة على هؤلاء القوم, لا شريك له فيها.

{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.

ولذا، فإن سر هذه الأمة في هذا الدين، فهو الذي نقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الجاهلية إلى السيادة، أو كما يقال: من رعاة الغنم إلى رعاة الأمم.

ورعاية الأمم لا تعني التسلط عليهم ولا قهرهم، بل تعني قيام الأمة بدورها في توصيل الرسالة لهم، ذلك أن الرسالة إنسانية عالمية خالدة لم تنزل على العرب لتزرع فيهم بذور عنصرية أو تمييز، بل لتحملهم مسؤولية الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وبهذا تكون الأمة أطول عمرا، وأكثر اتساعا، وأمضى في تاريخ الخلود، فهي أمة نشأت من الفكرة، أنشأتها الرسالة الإسلامية، تمتد في طول الزمان بتتابع الأجيال وفي عرض المكان باتساع البلدان.

{وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}

ولما سئل النبي ص عن هذه الآية أشار إلى سلمان الفارسي وقال: «لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال- أو: رجل- من هؤلاء» (رواه البخاري)، وسلمان من غير العرب، من فارس، ولذا قال العلماء إنها تعني كل من صدَّق النبي ص من غير العرب (1).. فهذا هو اتساع المكان.

وأما طول الزمان ففي حديث آخر، يقول ص: «إن في أصلاب رجالا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} (رواه الطبراني وابن أبي عاصم في السنة وصححه الألباني).

وهذه الأمة على كثرة الأجناس والأقوام، وعلى تتابع الأزمان والأجيال، تبقى عربية الروح والثقافة، تلتف حول اللسان العربي، وهذا معنى دقيق فقهه الشيخ الطاهر بن عاشور من الآية وقال بأن {منهم لما يلحقوا بهم} هي بمعنى الاتصال، أي أن العرب وغيرهم، والجيل وغيره، أمة واحدة متصلة ببعضها، ثم إنهم يلحقون بالعرب أي يتعربون لفهم الدين وتلاوة القرآن، وهي بشارة غيبية بأن دعوة النبي ص ستبلغ أمما غير عربية وأنهم يحتضنونها ويلتحقون بالعرب (2)، من كان يحلم بشيء من هذا الخلود والتفوق والسيادة من العرب المقيمين بالجزيرة في القرن السادس الميلادي؟ لا أحد بكل تأكيد..{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

وهنا، بهذا التأكيد، ينتهي المقطع الأول من سورة الجمعة، ليعرف المسلمون أنهم أمة نشأت بنعمة الله وفضله، وأن هذا الدين هو سر نهوضهم، وبه كان تفوقهم وخلودهم.

ويأتي المقطع الثاني الذي يُعطي الأمة خلاصة التاريخ الذي ينبغي أن تستفيد منه، وأن تصحح مسيرته، تاريخ قوم حملوا أمانة الرسالة من قبل فلم يحفظوها، فلهذا نقل الله رسالته إلى هذه الأمة.

إنهم بنو إسرائيل، آتاهم الله التوراة {فيها هدى ونور}، وفيها هذا النبي الأمي {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}.. إلا أنهم لم ينتفعوا بها إذ لم تتهذب عقائدهم ولا أخلاقهم، فضرب الله لهم هذا المثل: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}.

ولهذا ينبغي أن تفهم الأمة أن حضارتها حضارة عمل وتطبيق لا مجرد تنظير وتقعيد، حضارة وعي وفهم وتشرب للمنهج لا مجرد الاحتفاظ به وحمله في السيارات والمكتبات، أو حتى تلاوته في المحافل والمناسبات فحسب.

والتشبيه بالحمار الذي يحمل الأسفار تشبيه مركب؛ فالحمار لا يعرف قيمة ما يحمله أصلا، غير أنه لن ينتفع بها حتى ولو نشرت أمام عينيه، فكأنما بلغ بنو إسرائيل حد الإياس من انتفاعهم بما أنزل عليهم (3).

وهذا مثل مضروب للأمة المسلمة، لتعلم به أن مكان القرآن في حياتها هو مكانه من العمل والتنزيل والتنفيذ، وأن منهجها يجب أن يكون في روحها ووجدانها لا في السطور أو الصدور وحدها!

في هذه الحالة يكون القرب من الله واستحقاق الصلة به مرتبطا بهذه الأمانة، ولا يكون ثمة مكان للادعاء الفارغ أو زعم الخيرية أو مباهاة الناس بالباطل.. بل يكون القرب من الله وحمل رسالته مصحوبا بما يؤكده من عمل وتطبيق وجهاد، حتى لو أنه جهاد يتطلب ذهاب النفس في سبيل الرسالة.

كل هذه الأمور لم تكن عند اليهود، {قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.

وهنا، وبهذه الحقيقة القائمة الراسخة.. حقيقة الموت، ينتهي هذا المقطع من السورة، وقد كان يقدم للأمة المسلمة خلاصة تاريخ أمة سابقة، لكي تعرف منه خصائص رسالتها وحضارتها، فتقوم بتصحيح المسيرة وتضرب المثل للأمة التي حملت الرسالة بحق، فكانت خير أمة أخرجت للناس.

ثم يأتي المقطع الأخير الذي نزلت لأجله السورة نفسها، وفيه التنبيه على أن هذه الأمة تنظر إلى الآخرة أكثر من الدنيا، مع احتفاظها بالتوازن المطلوب بين الدنيا والآخرة، ولهذا فإن ثمة لحظات بعينها ينبغي أن تصفو فيها الأمة من الدنيا وأن تتركها إلى حيث يُذكر الله، {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}، رغم أن البيع ليس حراما {وأحل الله البيع}، بل هو مطلوب كسائر أعمال الرزق الحلال، لكن هذه اللحظة ليست كغيرها، حتى قال ابن كثير: اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني (حيث يكون الخطيب قد صعد)، واختلفوا: هل يصح؟ وظاهر الآية عدم الصحة (4).

فهي لحظة خاصة واستثنائية في حياة الأمة المسلمة، والعجيب أنه جل وعلا ذكر البيع ولم يذكر أي نشاط آخر للمسلم، ذلك أن البيع هو عملية الربح والحصول على المال، وبرغم هذا فإن ترك هذا البيع والذهاب للجمعة {خير لكم إن كنتم تعلمون}, وحيث إن الآخرة هي الغاية، وهي المعيار، إلا أن الإسلام منهج متوازن.. {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}, فحتى الخروج للدنيا وابتغاء الرزق ينبغي أن يكون مصحوبا بذكر الله ذكرا كثيرا.. إلا أن تعبير {قُضِيت الصلاة} يوحي بمعنى الإتقان، إعطاء كل ذي حق حقه، أي بعد استيفاء الصلاة يمكن للمسلم أن يخرج في طلب الرزق، ولهذا لم يكن التنديد القرآني بمن طلب الرزق في القافلة، بل كان بمن ترك الصلاة لأجل ما في القافلة، فانصرف قبل اكتمالها.

{وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}.

كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين (5).

هذا أصدق تعبير عن العقلية المسلمة التي تؤمن بأن الله فوق كل شيء، وأن ما عند الله هو خير مما يبدو لنا أنه خير.

بقي ملمح آخر للحضارة الإسلامية كما ظهرت في سورة الجمعة؛ وهو ملمح كامن ومنتشر في كل السورة، ومسيطر على روحها، ذلك هو أمر التوحيد.. إن اسم الله جل وعلا ذُكِر - صراحة أو ضميرًا أو صفقة- في كل آية من آيات السورة، وهذا يعني– بشكل واضح- أن هذه الحضارة مبعثها من عند الله تبارك وتعالى، فهو مالك الوجود {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض}، وهو صاحب الغرس {هو الذي بعث في الأميين رسولا}، وهو الذي شرع الشرائع وكلف بالأعمال (فاسعوا.. ذروا.. فانتشروا.. ابتغوا)، وهو الذي يعلم الغيوب والخفايا {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.

6 2 2015 10 33 02 AM

حسين شعبان وهدان :

إنه الآن واقف بالباب يدقّ بيد العزم في طلب العلا والغفران وزيادة الإيمان، تلقاهُ في ربوع الأوطان من أرض الإسلام وهداية القرآن، في كل مدينة أو بلد أو قرية، بل وفي القفار والفيافي ينشر ضياء قدومه من الآن. يقف أغلى الأضياف قيمة وأعزهم قدرا وأكثرهم كرما على أبواب قلوب الأحباب من حملة الكتاب وأتباع النبيِّ وقفاة سبل الأصحاب.. إنه رمضان يا ابن الإسلام.. ضيفك المعهود الحاضر الغائب في كل عام، يرفل في ثوب العطاء والمنح من طراز خاص، يقدم في العام كما تعلم مرة، ولكنه قدوم يملأ الدنيا رحمة وبهجة إيمانية غامرة لا تستشعرها القلوب إلا فيه، وسبحان من جعل أجمل الأرزاق فيه ما كان حظا للقلوب المطمئنة.

 إن شهرًا نزل فيه القرآن ليكون هداية الأبد للأمة لكفيلٌ بحسن الإستقبال، وشهرٌ تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبوابُ النار حري بحسن الإستقبال، وشهرٌ فيه ليلةٌ يزيد عطاؤها بكل المعاني عن ألف شهرٍ حريُّ بحسن الإستقبال، إضافةً إلى ما فيه من الوعد الحق بغفران الذنوب بالصيام والقيام وسائر أنواع القُرَبِ والطاعاتِ لكفيلٌ باليقظة والاهتمام باستقباله وحفظ مقامه، والوقوف على أسباب التوفيق فيه.. وتلك أهم المطالب في هذه الأيام.

 والناس على درب الاستقبال في اكتناز المكارم وفقدها أصنافٌ، فمنهم من يستقبله استقبالا لائقًا بحرمته، فيرعى منه العادة ويحولها إلى عبادة، ويستزيد في طلب الهدى بالتزام الفرائض، والحرص على النوافل، والفوز منه بسابغ البركات من تلاوة قرآن وقيام ليل، وصلة رحم وإطعام طعام وحضور علم واعتكاف وبذل صدقات، وغيرِها من كنوز الحسنات المعروضة في طيَّات ذا الشَّهر الكريم، ولا شك أن هذه الأصناف من القربات لا بد لها من استعداد وعُدَّة ومنهج وصحبة مُعينة على ارتياد هذه الآفاق من الخيرات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (التوبة: من الآية 46)، ومنهم من تنكبته العراقيل والشواغل التي أفقدته المشاعر الحية المنشودة، والتي يجب أن تكون ملء القلوب هذه الأيام، ومن الناس من اقتفى سبل التقليد وسعى في رمضان كما يسعى ملايين البشر، في طقوس مبتورة تمامًا عن مقاصد التشريع في الصيام والقيام وسائر الفضائل والقربات، ويعطل عقله بمنعه عن مجرد التفكير في التغيير، لأنه يلفي نفسه على قوافي السلامة منذ أزمان، فعجلة الأيام به دائرةٌ منذ رؤية الهلال، وحتى صلاة العيد في آلية حركية لا يجد فيها أهل التقليد عوجا، وحالهم كهذا الذي له ساقيةٌ تأخذ الماء من النهر وترده إلى النهر بلا فائدة، ولما أبدى الناس له العجب، قال في إهمال فكر وجودة تقليد: «يكفيني من الساقية نعيرها»، فهذا هو حال شريحة كبيرة من المستقبلين للشهر الكريم يقنع نفسه بأنه على الصواب، وما أدراك ما حاله؟ إنه كمسلم يصبح يوم الجمعة فيسأل: ما اسم هذا اليوم؟ ولو كان يعرف ما الجمعة وفضلها وشرفها لاستقبلها بشوق منذ الأمس لأنه ينتظرها لسبع أيام خلتْ.

ضرورة الاستعداد

وكل شيء في الدين والدنيا ذو بال لا بد له من همة في الاستعداد، فحينما ألقى الله أمانة الكتاب على نبيه الكريم يحيى عليه السلام قال له:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: من الآية12)، فهذا استعداده.

 وقضى القرآن العظيم وسنة النبي الكريم  " صلى الله عليه وسلم"  بطائفةٍ من الاستعدادات حتى يتمكن المؤمنون من الفوز والفلاح في الصلاة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وَأنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُورًا} (النساء:43)، فهي إذن أحكامٌ هامةٌ قاضيةٌ، على كلِّ مصل أن يأخذ حِذْرَهُ من السُّكْر، وأن يتعلم أحكام الجنابة، وأحكام المرض والتيمم، ومن هذا الاستعداد للصلاة قَوْلُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى لا يقبل صلاة بغير طهور، و لا صدقةً من غلول) (الألباني في صحيح الجامع 1855 بسند صحيح عن أسامة الهذلي والد أبي المليح  "رضي الله عنه" )، فالطهارة للصلاة من أهم واجبات الاستقبال لها، وتارك الطهارة مع التمكن منها لا تفتح له أبواب القبول، لأنه أساء استقبال صلاته.

   فهذه سنةُ الكتاب العزيز في ضبط حال المسلم قبل العبادة، نجدها كذلك في أمر الزكاة، قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}(الأنعام: من الآية 141)، فهذا استعدادٌ بالتذكر قبل حلول زمان الزكاة، ومن ذلك أيضًا أمر قضاء الحوائج قد انتخب له الشرع الاستعداد بالكتمان، فقد قال النبي الكريم  " صلى الله عليه وسلم" : «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» (الألباني في صحيح الجامع 943 بسند صحيح عن معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عن الجميع ).

 استعداداتٌ غير مُوَفَّقَة

 لقد غدا شهر رمضان موسمًا ذا حراك دؤوب لأصحاب الحرفِ والصنائع الغذائية والاستهلاكية والترفيهية، وهذا يبين باختصار الحالة التي يكون عليها المسلمون في رمضان، بيد أنه لا يمكن لأحد أن يجزم من الذي تسبب أولًا وأرسى هذه الأعراف الاجتماعية، أَهُمُ التجار والحرفِيُّون وأصحاب المآرب في التكسب الذين أغروا المستهلكَ النَّهِمَ بكل ما يُعرضُ في الأسواق؟ أم هم الناس أفرادًا وجماعات دفعهم الاستحواذ على كل ما يرونه أو يسمعون عنه من باب التقليد أو الاكتشاف، أو الاستغراق في المباح، أم أنهما جميعًا قد تعاونا على إخراج هذه الصور الموغلة في التشاغل بالمأكول والمشروب والمُشاهَد ووسائل الترفيه؟ والظن كله يميل إلى تفاعل كل مع الآخر في الزهد عن الصراط المستقيم في رمضان، وإن كانت الصور تدعي – عبثًا – الالتزام، بَيْدَ أنَّهُ في الغالب مظهريٌّ إلا من رحم الله تعالى.

 أما استعداد أهل الفن فأمرٌ عجابٌ، مهما قلبته على وجه عاقل فإنك لن تجد له مساغًا في دائرة القبول، فهو إذن ضربٌ من الجنون بجمع المتضادات الشرعية والعقلية والأخلاقية في قرن واحد، بين ادعاء التدين وخلط الأوراق من الإسراف والتميع الخلقي والاختلاط وضياع كنز العمر، واستدعاء من لا علاقة لهم بحرمة الشهر من قريب ولا بعيد وجعلهم نجومًا مسفرةً.. نعم.. ولكن بالجحيم الساري في أعطاف النفوس والعيون المتابعة للزوابع الطائشة في رمضان.

ودائمًا ما يشغلنا التفكير فيمن سيحمل هذه الأوزار التي تزيد كل عامٍ مع هذه القفزات الإعلامية المحطمة في ميدان القيم والأخلاق بشكل غير مسبوق، من سيحمل هذا الكفل من العذاب، وهداية العقول الحائرة دائمًا نلقاها في كتاب الله تعالى القائل عن هؤلاء وأمثالهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل:25)، والقائد والقدوة غير المكرمة هو إبليس اللعين.

 إن سفينة الحياة السائرة بلا توقف كل عام على غير تفكير رشيد وتوبة صادقة من الخائف على عمره من الضياع، وعلى نفسه من العذاب إنما هي سفينة الهلكى، فلماذا يرتادها زاعمو الهداية من قوافيها؟!. ومتى يتوقفون عن كذبهم الموهوم؟.. ولماذا تكون أنت – أخي الكريم – سببًا في زيادة أعداد السادرين في الغفلة معهم؟!.

 وللنساء في شأن الاستعداد صور أخر، يختصرها حالهن الماثل قبل الهلال في الأسواق، يدرن الساعات الطوال عن مطالب الأبدان - وما في هذا عيبٌ ولا ذنبٌ -  ولكن الفاقرة تأتي من أن هذا الانشغال يجور حتمًا على حقوق القلوب من التربص المنشود بالتطهر، وترك الشواغل واكتناز التعلم وشحن الهمم، إنه نهر عطاء لا ينفد قد تركت الري منه بنت الإسلام قبل رمضان، واستعدت بناءً على قرارات الأبدان وأوامرها، بينما تظل الأرواح قاحلة من نسيم الإيمان الذي يرطب جفافها، ويذهب عنها ما يؤرقها في تزاحم مسئوليات الحياة الدنيا.

 وجُلُّ الناس في الإعداد يجيدون فهم الصورة السابقة، قد هرعوا قرب القدوم إلى أبواب التجار يبغون المؤن، من سلع غذائية متكاثرة لا يعلم منتهاها إلا الله، تقصم فقار الظهر في أثمانها، وتتنافى مع فلسفة الشهر الكريم في التقشف، وقد برع أهل الصنائع في الطعام في صنع ألوانٍ تصيب الجيوب بالنزيف والأبدان بالثقل والنفوس بالبطر والثقل بعد الشبع إِثْرَ تدليل النفس بإجابة كل خواطرها في جانب الشهوات.. فأين الفائدة من تأديب النفوس بالصيام.. ومن يفهم؟

 المطلوب هو استعداد القلوب

 لا تجعل كل همك في قضية الاستعداد أن تتخم بطنك بما يغمرها ويطمرها، ولا أن تقنع نفسك بالمنى بأنك أديت ما عليك مثل كل الناس، فإن هذه – لا شك – أفكار المفاليس، فالناس في هيامهم بالهوى والدنيا والشهوات على ضروب الهلاك، وكل ما هو مطلوب اليوم - أخي الكريم - هو تميزٌ عن الناس بوقفة صدق مع الله والنفس باستنفار جواهر المعاني الكريمة التي تبيض الوجه مع ربنا واهب النعم، ومحاولة إحياء القلوب بعد مواتها، فإن معاناة قلوب الموحدين هذه الأيام لها جوارٌ وصدى.. يفلق الأكباد إن سمعناهُ.

ضيفكم الكريم – يا أهل الكرم -  سيطرق آخر طرقاته على أبواب القلوب بعد لحظات، والجواب المُنتظَرُ لن يكون إلا بنياطها وشآبيبها، بفرح القدوم للضيف الذي طال انتظاره، كما كان السلف الصالح يستقبلون رمضان بستة أشهر، يدعون الله أن يبلغهم رمضان ثم يودعونه بستة أشهر، يدعون الله أن يتقبل منهم، وعلى ذلك فالسنة كلها كانت إلهامًا ودرسًا وعبرةً ومعايشةً لبركات رمضان.

فيا أيها المسلم انهض، وأسقط متاع الغرور الآن من على ظهرك، وافتح للضيف القادم كل أذرعة الوداد المُسْتَكِنَّة في قلبك، فإن الخوف المحذور قادمٌ – إن أهملت -  وسيهولك المشهد العام يوم القيامة من فرط العجب الذي سيملك نياط القلب حين تُبلى السرائر، لترى أن أقوامًا خرجوا من رمضان وهم على رؤوس القمم، لأنهم كانوا ممن يحسنون استقبال الضيوف، وأقوامًا أُخَر ما زالوا يتسكعون على سفوح البطالة، لأنهم سمعوا الأبواب المطروقة، ولم تنهض بهم هِمَّةٌ ولم تَرْقَ لهم عزيمة.

شهر رمضان1

إعداد: سامح عبد الإله عبد الهادي

باحث وداعية فلسطيني

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذه رسالة في بيان أهم الأحاديث الضعيفة والباطلة التي تشتهر على ألسنة الناس في رمضان، قمت بجمعها وتخريجها تخريجاً مختصراً، وقد لخَّصت فيها بعض ما قام به العلماء من تخريج سابق للحديث إن وجدته.

0001222

القلق مرض العصر.. كيف عالجه الإسلام؟

خلف أحمد أبوزيد :

إن حياة الإنسان لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تمضي على نمط واحد، بل هي خليط من التجارب المتنوعة والانفعالات والعواطف المختلفة، فالإنسان قد يشعر بالحب حينًا، وبالكره حينًا آخر، ويشعر بالخوف والقلق تارة وبالأمن والطمأنينة وسكينة النفس تارة أخرى، ويشعر بالفرح والسرور بعض الوقت وبالحزن والكآبة في بعض الأحيان، وهكذا تمضي حياة الإنسان في تغير مستمر وتقلب دائم، ويعد القلق من الأحاسيس المؤلمة وأساس المتاعب النفسية التي يعاني منها الإنسان المعاصر، حتى أصبح خاصية عامة وعالمية، حيث إن أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، أثبت «أن 25 % من سكان العالم يشعرون بالتوتر والخوف والإحباط، وتوقع السوء، وحدوث ما يهدد حياتهم» (1)، ويعرف لنا علماء النفس القلق بأنه «انفعال يتسم بالخوف والتوجس من أشياء مرتقبة تنطوي على تهديد حقيقي أو مجهول، ويكون من المعقول أحيانًا أن نقلق للتحفز النشط ومواجهة الخطر، ولكن كثيرًا من المواقف المثيرة للقلق، لا يكون فيها الخطر حقيقيًا بل متوهمًا ومجهول المصدر» (2)، ونتعرف عبر هذه السطور على أنواع القلق وأثره على الصحة الإنسانية، ثم الوسائل التي وضعها ديننا الإسلامي، من أجل النجاة منه. 2_opt.jpeg يمكن لنا أن نقسم القلق إلى نوعين، قلق محمود، أو قلق ايجابي وهو موجود عند كل الناس، حيث إنه يمثل الحافز القوي لكل إنسان، لذا فإن البعض رفعه إلى درجة من الضرورية من أجل السعي نحو الهدف والتقدم في شتى مواقع الحياة، ولهذا النوع من القلق صور عديدة في حياتنا، نذكر منها على سبيل المثال، قلق التلميذ أثناء أداء الامتحان أو القلق الذي يصيبنا أثناء اتخاذ قرار هام، أو لقاء شخص ما، فمن خلال التوتر أو القلق الذي نظهره قبل حدوث هذه المواقف نهيئ أنفسنا لمواجهة هذه المواقف بنجاح، وأنه لو أتيح لنا أن ننجح في هذه المواقف ونتغلب على خجلنا وعوامل ضعفنا في اللقاءات الشخصية الهامة تاركين أثرًا طيبًا وايجابيًا في الآخرين، فإننا نشعر بالعرفان والشكر لمشاعر القلق السابقة لمساهمتها في دفعنا الإيجابي نحو النجاح، فإن أمثال هذه المواقف يعد نموذجًا طيبًا لما يسمى بالقلق الدافع، وهو قلق ضروري للنمو وللتطور بإمكاناتنا نحو تحقيق كثير من الغايات الإيجابية، وهو قلق مؤقت وقليل الحدة ومنشط لإمكانات الكائن النفسية والعضوية، وبعبارة أخرى فإن هذا نوع صحي ومحمود من القلق، وينطبق عليه قول العالم النفسي الأميركي «كاتل» بعد عرض كثير من نتائج بحوثه في هذا الميدان «بعض الناس يربط دائما بين القلق والمرض، ولكن القلق لا يكون دائما دليلا على المرض والعصاب، إن القلق يمكن أن يوجد بدرجة عالية دون عصاب، بل إنني أجد من نتائج دراساتي ما يؤكد أن وجود القلق قد يكون أحيانا علامة على الصحة والنضوج» (3).

أما النوع الثاني من القلق وهو ما يطلق عليه علماء النفس القلق المذموم، أو القلق المرضي وهو قلق ضار ومعطل لإمكانات الإنسان نحو النمو السليم، وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي بصورة سليمة، من حيث إنه يقيد الشخصية بأوهام الخوف والفشل اللامنطقي ويمثل سلوكًا مدمرا، يدعو للهزيمة الذاتية والاضطراب، ونذكر هنا صورًا لهذا النوع من القلق المذموم، فعلى سبيل المثال، نموذج الطالب الذي يتملكه القلق في يوم الامتحان بصورة توقفه عن أداء الامتحان ذاته والهروب من الموقف كله، أو ذلك الزوج الذي يتملكه الخوف من الضعف الجنسي عند معاشرته لزوجته، بصورة قد تؤدي إلى إصابته بالعنة الجنسية، أو تلك الأم التي تخشى على أبنائها من أخطار الحياة، لدرجة توقف نموهم وتفاعلهم الايجابي بالحياة بحب فج وحرص بالغ، وهذا الطفل الذي يوقعه خوف الانفصال عن الأسرة في التحايل على الذهاب إلى المدرسة بالمرض أو التمارض كل صباح، فكل صورة من هذه الصور السابقة، يمثل صورة مختلفة لما يمكن أن نسميه بالقلق المرضي أو العصابي، الذي يمثل الشكوى الرئيسية للغالبية العظمى من الناس.

القلق والصحة الإنسانية

ويترك القلق آثارًا ضارة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، حيث إنه يحدث تغيرات غير سارة يرى العلماء أنها نتيجة للاستثارة الشديدة التي تحدث فيما يسمى بالجهاز العصبي السميناوي (الاستشاري) وهو أحد الأجهزة الرئيسية التي تنشط في مواقف الخطر والانفعال ويؤدي نشاطها إلى التأثير في الأعضاء المتصلة به، فتجحظ العيون أو تضيق، وتعرق الأيدي أو تبرد أطرافها، وتتزايد دقات القلب وتتسارع وتنقبض الأوعية الدموية، وتستثار بعض الغدد كالغدد الدمعية في حالات الحزن، ونجد في حالات القلق أن التغيرات العضوية تمتد لتشمل تسارع دقات القلب، جفاف الفم، الدوخة، العرق الشديد، الغصة وانحباس الصوت، وأحيانا الغثيان نتيجة لانقباض المعدة والتنميل في اليدين والقدمين، وصعوبات التنفس التي تكون إما على شكل العجز عن التنفس العميق أو التنفس السريع المتلاحق، كما يحدث القلق أيضا تغيرات عضوية عضلية، لعل من أهمها تصلب عضلات الظهر والرقبة والتصلب على امتداد عضلات الذراعين حتى أسفل الكتفين، وارتعاشات الأطراف والأصابع وزيادة اللوازم الحركية في الوجه بالذات في منطقة الفم والعينين نتيجة للتوتر العضلي الشديد، في هاتين المنطقتين، ولهذا نجد أن كثيرًا من المصابين بالقلق عادة ما يشكون من توترات العضلات وآلام الظهر وتقلبات المعدة، وما يصحب ذلك من اضطرابات الهضم، كما يرتبط التعبير عن القلق بآلام الصدر وضيق التنفس، مما يجعل الشخص يشك في الأمراض القلبية بالرغم من سلامة القلب، إلا أن هناك من الأبحاث ما يؤكد على أن الأشخاص الذين يتسم سلوكهم بالقلق المستمر والشكوى عادة ما يتعرضون فيما بعد لأمراض قلبية حقيقية، وترتفع لديهم أيضا الحالات المرضية المرتبطة بارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة والبول السكري والربو واكزيما الجلد، وإذا تركنا أثر القلق على الجسد الإنساني، إلى أثره على الصحة النفسية للإنسان، نجد أنه يقود الإنسان إلى الانقباض الشديد وعدم الطمأنينة والتفكير الملح، وقد يصل الأمر إذا استفحل إلى ما يعرف بعصاب القلق، وهو يتمثل في الوسواس والخضوع لفكرة ملحة مثل فكرة الموت، أو المرض أو المخاوف المرضية أو العصاب القهري مثل غسل اليدين المبالغ فيه، وعصاب القلق مرض يعاني منه نحو 5% من أفراد المجتمع الأميركي، ونجمل أثر ما يحدثه القلق على النفس والبدن في هذه الكلمات للعالم «بيرتون» الذي يقول «كثيرة الآثار المؤلمة التي يتركها القلق على الإنسان بما في ذلك الشحوب أو احمرار البشرة والرجفة والعرق، وكثيرة آلام هؤلاء الذين يعيشون في خوف، إنهم لا يستطيعون أبدًا أن يتحرروا، أو أن يشعروا بالأمان، عزائمهم خاوية وآلامهم قاسية وحياتهم تخلو من البهجة، ولم أجد تعاسة أعظم، ولا ألمًا أطرى، ولا عذابًا أقسى من العذاب الذي يحيونه» (4).

العلاج الإسلامي للقلق

بداية نؤكد على حقيقة هامة، أن الإسلام حل أزمات الإنسان المعاصر حلا كاملا، سواءً كانت أزمات روحية أو دينية أو نفسية أو خلقية أو اجتماعية، بما يضمن سعادة الإنسان ويحقق له الطمأنينة والاستقرار على أرض الواقع، ومن هذا المنطلق يهدينا الإسلام إلى الوسائل السليمة لاتقاء القلق، ويفرش لنا أرضًا صلبة نقف عليها بثبات وطمأنينة إذا ما تدبرناه وعقلناه، ومن ناحية العلاج نجد أن الإسلام، يقدم أساليب عالية لعلاج القلق تفوق وسائل العلاج النفسي الحديث التي تمثلت في الاسترخاء، والعلاج الطبي بالأدوية المهدئة، هذا إلى جانب ألوان أخرى من العلاج، كالعلاج المهني وهو أن يشغل المريض بالعمل عن التفكير في مشكلته، أو التنويم المغناطيسي، ولا أحد ينكر أن علاج القلق بالوسائل الطبية والنفسية الحديثة، قد يجدي في بعض الحالات، وقد لا يجدي في بعضها الآخر، ذلك أن المدرسة الحديثة في الطب وعلم النفس لا تقدم حلا جذريًا للمشكلة، وإنما تقدم لنا علاجًا للأعراض، أما الأسباب فتضرب جذورها في الأعماق، ومن هنا أصبح القلق مرض العصر، إلا أن ديننا الإسلامي قد رسم المنهاج الأمثل، الذي يقينا شر الأمراض العضوية والنفسية، كما يدفع عنا الخوف والقلق، وقد حدد لنا المولى سبحانه وتعالى الخطوات الرشيدة التي تحقق لنا سبل السعادة، وتدرأ عنا أسباب القلق، ويمكن لنا أن نوجز العلاج الإسلامي للقلق فيما يلي.

1- الالتجاء إلى الله والتوكل عليه سبحانه

وأول ما يقضي على القلق، ويجلب السعادة والأمن والاطمئنان للإنسان هو الالتجاء إلى الله والتوكل عليه، قال تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق:2- 3) فالإيمان بالله الممتزج بالتقوى والعمل الصالح مع التحلي بالصبر والتواصي بالخلق الحميد والرضا بقضاء الله خيره وشره، يورث الإنسان بشاشة الروح، وحلاوة النفس، قال تعالى {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} (هود: 123) {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97) فتقوى الله والإيمان به سبحانه، مع التوكل الحقيقي عليه يزيل عن الإنسان أسباب التوتر ويدفع عنه القلق، يقول «ديل كارينجي» صاحب أكبر مجموعة من مؤلفات علم النفس عن أثر الإيمان والالتجاء إلى الله في علاج القلق «إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا هذه الأمراض» (5)، ويقول «الكسيس كاريل» الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة، حول أثر الإيمان والتوكل على الله على صحة الإنسان النفسية «إن القلق والهموم يحدثان تغيرات عضوية، وأمراضًا حقيقية، وهي تضر بالصحة ضررًا بالغًا، وإن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يقون أنفسهم من الهموم يموتون في شرخ الشباب، ثم يتطرق إلى الذين يدينون بأحد الأديان ويصفهم بالبسطاء، ويقول كأن البسطاء يمكنهم أن يحسوا الله بنفس السهولة التي يحسون بها حرارة الشمس أو وجود صديق، إن الذين لا يكافحون القلق يموتون مبكرًا» (6) وكأنما الكسيس كاريل أراد هنا أن يصف الإيمان بالبساطة، لما يراه من سلوك المؤمنين من هدوء وسكينة وعدم المغالاة في حياتهم الدينية، وأن هذا الإيمان أو البساطة، كما يقول هي التي تدفع القلق.

2- الصلاة

والصلاة عامل أساسي لوقاية الإنسان من القلق والتوتر عملا بقوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (البقرة: 45)، ولنا في رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" ، أعظم قدوة ونبراس فكان  "صلى الله عليه وسلم" ، إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة وقال لبلال رضي الله عنه «أرحنا بها يا بلال» (رواه الطبراني في الكبير)، فالصلاة منبع السكينة وراحة القلب، ذلك أن الإنسان أثناءها، يمر بلحظات من الطهر والنقاء، لأنه يقف بين يدي الله يناجيه، فيسمع لشكواه وهمومه، فيزيل ما يسبب شكواه، كما أن إقامة الصلاة في وقتها تحقق للإنسان السعادة العالية والمتعة الراقية، التي تجعلنا نستهين بآلام الحياة ومتاعبها، ولكن على المسلم أن يؤدي الصلاة في خشوع، هذا الخشوع الذي دعى اليه الخالق عز وجل بقوله تعالى {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون:1- 2) هذه الصلاة الخاشعة التي تمد الإنسان بالطاقة الروحية وتوثق الصلة بالله عز وجل، وكثير من علماء النفس الغربيين، أصبحوا يعتبرون الصلاة، أهم أداة لبعث الطمأنينة في النفوس، ولكن أين هي من صلاة المسلم التي تقربه من الله، إذا ما أداها المسلم حقًا في خشوع وهدوء وسكينة ورضا وطمأنينة.

3- ذكر الله

كما من الأمور التي تدفع أسباب القلق والتوتر، حرص المسلم على ذكر الله سبحانه وتعالى، عملا بقوله جل جلاله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28)، ذلك أنه إذا اطمأنت القلوب، وهدأت النفوس واستقرت زال عنها كل خوف وقلق، في حين أن الإنسان الذي يعرض عن ذكر الله هو قاسي القلب جاحد النعمة، بعيد عن الروحانيات، طغت عليه المادة، ولذلك فهو يعيش حياة شديدة القلق مليئة بالمنغصات، مصداقًا لقوله تعالى {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه: 124)، والضنك هو الشقاء الشديد.

4- الدعاء

إذا كان بعض العلماء النفسيين في الغرب أمثال الدكتور «رورهلفروج» يقول «إن من الأدوية الشافية للقلق إفضاء الشاكي بمتاعبه، إلى شخص يثق فيه، حيث إن تحدث المرضى عن متاعبهم بإسهاب وتفصيل، ينفي القلق من أذهانهم، فإن مجرد اجترار الشكوى فيه شفاء» وعلى هذا فإن الإفضاء بالمتاعب إلى شخص، أصبح من الوسائل العلاجية المعمول بها الآن، في كل المستشفيات النفسية والعصبية، كما ينصح الأطباء النفسيون باختيار الشخص الذي نفضي إليه، فليس كل شخص يمكن الإفضاء إليه، وإنما المهم الإحساس بأن هذا الشخص يسمع ويحس ويعين (7)، وقد يساور الإنسان الخوف أو القلق من الإنسان الذي يحكي له فيصيب نفسه بعض الشك الذي يجعله أشد قلقاَ من قبل، ولكن اللجوء إلى الله بالدعاء وإفراغ المتاعب النفسية والهموم إليه سبحانه، يعد خير وسيلة للوقاية من القلق، قال تعالى {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60)، ولنا في رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  خير قدوة وأعظم نبراس في ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا لحق به شيء من عوارض الحياة كالشدة والكرب والغضب وعسر المعيشة، لجأ إلى ربه بالتضرع والدعاء، ومن الأدعية التي علمنا إياها رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  لمنع الأرق والرؤى والكرب قوله عليه الصلاة والسلام «إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون فإنها لا تضره» (رواه أحمد والترمذي)، كما أن هناك أدعية بالفرج من هموم النفس فباب الله مفتوح على مصراعيه لكل صاحب هم، إذا ما توجه إلى الله بقلبه وكيانه، فعن الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  قال «ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال اللهم إنما أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسالك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحدًا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا، فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» (رواه أحمد في مسنده).

5- تلاوة القرآن

كما أن تلاوة القرآن الكريم تبعث في نفس المسلم الهدوء وسكينة النفس وطمأنينة القلب، قال تعالى {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} (فصلت: 44) {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} (يونس: 57) {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء: 82)، فهل نستطيع بعد وعد الله عز وجل بأن القرآن شفاء ورحمة وهدوء وطمأنينة للمؤمنين من أن نستفيد منه في الخلاص من القلق وما يدعو إلى التوتر ومشاعر اليأس والإحباط؟

أخيرًا

وفي النهاية نقول، إذا كنا اليوم قد افتقدنا عنصري الرضا والأمن النفسي، وهما جناحا السعادة والهناء، وإذا كنا نحيا دائما بين الحزن على ما فات والخوف مما هو آت، وإذا كنا لا نستطيع أن نقتلع الأحزان والخوف والقلق من نفوسنا بمجرد الرغبة في ذلك، فإننا نستطيع على الجانب الآخر أن نتمسك بالدين قولا وعملا ونتحلى بالخلق الكريم، ولنقرأ دائما قوله تعالى {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} (الحديد: 22 – 23).

الهوامش

1- مجلة منار الإسلام، العدد الأول السنة 26، محرم 1421هجرية، إبريل 2000 ميلادية.

2- القلق قيود من الوهم، د/ عبدالستار إبراهيم، الناشر دار الهلال بالقاهرة، ص 13.

3- المصدر السابق، ص 16.

4- المصدر السابق، ص 32.

5- الصلاة وصحة الإنسان، حلمي الخولي، سلسلة دراسات إسلامية، العدد 129، ص 87.

6- المصدر السابق، ص 126.

7- الإسلام والعلم الحديث، د/ عبدالرزاق نوفل، ص 102.

دير جنادلة الغنايم تكرِّم حفظة القرآن الكريم

القاهرة – عبدالناصر العمدة: للعام الثالث على التوالي، شهدت قرية دير الجنادلة مركز الغنايم ...

أميمة عتيق تكتب: كيف تستقبلين شهر الصيام؟

 أميمة عتيق - باحثة وكاتبة مغربية: تقبل علينا في هذه الأيام القادمة نسمات عطرة للشهر الفضيل، ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال