السبت، 27 يوليو 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

الدكتور أحمد زكي عاكف وتأديب العلم

د. محمود صالح البيلي - دكتوراه في الأدب والنقد: قيض الله سبحانه وتعالى للعربية من الكتاب من جمع ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

275 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

2336252

د. عبدالصبور فاضل :

الدعوة إلى الله -تعالى- هي مهمة ورسالة أشرف الخلق (الأنبياء والمرسلين) -عليهم الصلاة والسلام-، وهي سبب خيرية أمة الحبيب محمد  " صلى الله عليه وسلم" ، ورحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه"  حين كان يقول: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. قالوا: وما شرط الله فيها يا أمير المؤمنين؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1).

والإسلام دين يصلح به كل زمان ومكان على مر العصور، حيث أخذ بكل الوسائل المتاحة لنشر الدعوة من الخطابة والرسائل والشعر والاتصال الجمعي في المساجد وموسم الحج والعمرة، ولنا في رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  أسوة حسنة، فهو الذي استخدم وسائل متنوعة منذ بعثته، مثل: الخطابة، والإشارة باليد والأصابع والعصي، كما استخدم الرسم على الأرض، فها هو  " صلى الله عليه وسلم"  يستخدم التخطيط والرسم على الرمال، ليبين لأصحابه الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بالسير عليه، حتى لا نضل ولا نفترق، ويتضح ذلك من حديث ابن مسعود  "رضي الله عنه"  إذ يقول: خط رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل ليس سبيل منها إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَ?ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ? وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام:153)، وتارة تجده يستخدم الإشارة فيقول  " صلى الله عليه وسلم"  فيما رواه سهل بن سعد الساعدي  "رضي الله عنه" : «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، مشيرا إلى قرب قيامها، ضاربا بذلك أعظم الأمثلة الإعلامية في استخدام مختلف الوسائل، من أجل توصيل الرسالة الاتصالية عن طريق استثارة الحواس جميعها.

كما اعتنى الإسلام ورسوله بالاتصال المواجهي من شخص إلى آخر، أو إلى مجموعة قليلة من الناس، علما أن نظام الدواوين، والوقف والزكاة صنع إسلامي أصيل، حتى إن الإسلام استوعب ما سبقته إليه الأديان الأخرى من فضائل وإيجابيات، وبعضها أقرها كما هي والبعض الآخر طورها وصبغها بصبغة الإسلام، بما ينفع الناس كافة.

ومع التطورات المتلاحقة، وبخاصة ما يتعلق بالتقنيات الحديثة مثل الإنترنت التي أحدثت نقلة غير تقليدية في عالم الاتصال والتواصل، بوسائله المختلفة مثل الصحف والمواقع والإذاعات الإليكترونية المسموعة والمرئية، والمدونات، والشات، والمنتديات، والبريد الإليكتروني، والمجموعات، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن الدعوة الإسلامية أحوج ما تكون إلى استخدام هذه الوسائل وبفاعلية لشرح مبادئ، وقيم، وموقف الإسلام من القضايا المطروحة على الساحة في مختلف المجالات الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والعسكرية، والإنسانية، وغيرها.

ويلاحظ أن مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة «الفيسبوك» و«تويتر» استحوذت على عقول كثير من الناس، وبخاصة الشباب منهم، مما يجعلنا نؤكد على ضرورة التوجه صوب هذه الوسيلة لاغتنامها في الدعوة الإسلامية، من خلال دعوة غير المسلمين للإسلام وتعريفهم به، ودعوة الشباب المسلم للتمسك بدينه وعدم الولوج في بحر الظلمات المليء بموبقات التواصل مع الآخرين، وهي لا تخفى على أحد، بل أكدتها الدراسات العلمية وغيرها، ومنها دراسة أجريت على عينة من طلاب الجامعة، حيث أكدوا أن الفيسبوك قد يتعارض مع الثقافة والقيم والمبادئ السائدة في مجتمعاتهم، ومع ذلك فهم لا يمكنهم الاستغناء عن متابعته (2).

وحسب دراسة أجرتها شركة كيتشوم بلون عام 2011م بعنوان «الفيسبوك وحماية الخصوصية الفردية» تبين أن حوالي (800) مليون يستخدمون الفيسبوك، وفي دراسة لشركة Surge ons digital المتخصصة بتسويق العلامات التجارية على الشبكات الاجتماعية عام 2010م بينت أن أكثر من 500 مليون مستخدم للفيسبوك، وأن حوالي 100 مليون مستخدم لتويتر.

كما توصلت إحدى الدراسات حول الطلاب والشبكات الاجتماعية عام 2010م إلى أن 40 في المئة من الطلاب موضوع الدراسة استخدموا الفيسبوك لاكتساب معارف وخبرات، و20 في المئة للبحث عن أصدقاء، وأن نسبة 50 في المئة منهم يستخدمون الفيسبوك كشبكة اجتماعية، وأن هذا الاستخدام يشغلهم عن الدراسة، وأن هذا الاستخدام يؤدي بهم إلى التكاسل والتراخي بنسبة 30 في المئة. (3).

وعلى الرغم من تلك الإيجابيات لمواقع التواصل الاجتماعي، فإن لها سلبيات خطيرة جدا على سلوك الشخصية المسلمة، وعلى عقيدتها وآدابها، وقيمها، وأخلاقياتها، لأنها ليس فيها حدود للتعامل بين المسموح والممنوع، أو بين الحلال والحرام؛ بل كل شخص حر فيما يطرحه من فكر أو سلوك أو اعتقاد، فتجد انتشارا كثيفا لتلك الصفحات التي تدعو إلى نشر الإباحية والإلحاد، وعقيدة الحرية الشخصية، وغير ذلك من الأفكار الخبيثة والدخيلة على هذا المجتمع المسلم الملتزم بحدود الله تعالى، بل هناك حرية شخصية تفعل ما تريد كيفما تريد، طالما لا تتعدى على حرية غيرها، وهذا مناف تماما للإسلام جملة وتفصيلا، وهدفه الوحيد هدم تلك الصلة القوية بين المسلم وبين دينه (4).

لكن الأخطر من ذلك، ومن هذه الصفحات الإباحية والتي تهدف إلى نشر الفاحشة في الذين آمنوا، هي تلك الصفحات التي تشكك المسلمين في دينهم وفي عقيدتهم، وقد انتشرت تلك الصفحات الاجتماعية بكثافة كبيرة جدا، خصوصا في الأعوام الثلاثة المنصرمة، فتجد الصفحة تسمي اسمها في البداية بأي اسم علمي، ثم تأخذ في عرض مميزات الإسلام، والتي تتفق مع ما يريدونه من أهداف، كاحترام الإسلام للمرأة مثلا، وكيف أن الله عزوجل وصى بها وكرمها، ثم بعد ذلك يأتي بطرح شبهة تمس المرأة أيضا، وذلك بعد أن جذب روادا كثرا لتلك الصفحة، ثم شبهة أخرى، وغالبية تلك الشبهات إنما هي من كتب المستشرقين، ثم يأخذ في تشكيك المسلمين في دينهم عقائديا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا، حتى يرسخ عند المسلم فكرة أن هذا الدين إنما هو بينك وبين ربك، ولا يصلح أبدا أن يخرج إلى الحياة بعد هذا التطور العلمي الصارخ الذي لن يستطيع الإسلام مجاراته (5).

كذلك من أخطار هذه المواقع على الشخصية المسلمة، أنها ضياع للأوقات بشكل كبير جدا، وأن هناك كثيرا من رواد تلك المواقع اكتفوا بالتواصل الافتراضي، واستغنوا به عن التواصل الحقيقي مع الناس العاديين، وحتى مع أقاربهم، مما يشكل خطرا شديدا على الصحة النفسية والاجتماعية، وكذلك القدرات العقلية، مع مرور الوقت، مما قد يجعل الشخص مصابا بمرض التوحد، وهذا الأمر أخطر ما يكون على الأطفال، بجانب أنها قد تكون مدخلا لإقامة علاقات شخصية محرمة.

فعلى سبيل المثال أكدت «سيتي هاريانتي» الأمينة في محكمة شرعية في جونونج كيدول في إندونيسيا أن الفيس بوك وراء حمل المراهقات، أو في الزواج المبكر مؤكدة لوكالة «أنتارا» الإندونيسية الحكومية أنه السبب في تزايد حالات حمل المراهقات في البلاد، وقالت «هاريانتي» إن «الدخول على الفيس بوك بات سهلا، حتى في القرى مما يؤدي إلى أن تصبح الفتيات حوامل خارج نطاق الزواج» حيث يبلغ عدد مستخدمي «فيس بوك» في إندونيسيا 35 مليون شخص، ما يجعلها ثاني أكبر سوق لاستخدام الموقع بعد الولايات المتحدة حسب موقع «جلوبال بوست» الأميركي على الإنترنت (6).

ومن يطالع الصفحة العربية للفيسبوك يجدها من أسوأ الصفحات على مستوى لغات الفيسبوك قاطبة، سياسيا وأخلاقيا ولغويا وحواريا وأدبيا وقيميا.. صحيح أن الكثيرين محترمون يدركون الفرق بين حياتهم الخاصة والعامة، ويتصفون بالرقي في كتاباتهم وحواراتهم، ومع ذلك هناك من يصرون على تشويه كل ما هو جميل في حياتنا، فهل كتب علينا أن نكون دائما في ذيل القائمة؟!

فقد أوصت دراسة سعودية حديثة بضرورة تنمية الأخلاقيات الإيمانية ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني، وتفعيل دور الجامعات السعودية في تقديم برامج تسهم في رفع مستوى هذه الأخلاقيات، حيث توصلت الدراسة التي أجراها الدكتور خالد بن علي القرشي من جامعة أم القرى على (1939) طالبا من خمس جامعات، وكانت بعنوان «أخلاقيات التواصل الاجتماعي الإلكتروني لدى طلاب الجامعات السعودية».. توصلت هذه الدراسة إلى أن 5 في المئة يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني استخداما سلبيا، وأن 75 في المئة من المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي يهتمون بنشر الفضائح على «الفيسبوك»، بينما يهتم 72 في المئة منهم بنشر الغيبة على «تويتر» (7).

ويمكن توظيف مواقع التواصل الاجتماعي في خدمة الدعوة الإسلامية على النحو التالي: (8).

أولا- الفيس بوك «Facebook»: وهو موقع اجتماعي شهير يدخل عليه الملايين على مستوى العالم، وهو ما يؤكد أهميته ورواجه الواقعي، ومن خلاله يمكن التواصل مع أي إنسان في أي مكان وزمان، ومن هنا فقد انتبه إليه دعاة كثر في زماننا، وتم عمل صفحات شخصية لهم عليه لمخاطبة جماهيرهم، ونشر الدين والدعوة داخل العالم العربي وخارجه، ولكن ليس بالحجم المطلوب، ويمكن توظيفه دعويا من خلال القيام بالآتي:

1- عمل مجموعات «GROUPS» تقوم بالحث على الفضيلة ونشرها بين الناس.

2- مراسلة جميع أصحاب الصفحات الموجودة لدى الداعية بما تريد توصيله من قيم وأخلاق وغيرها من أعمال فاضلة.

3- التواصل مع غير المسلمين لدعوتهم إلى الدين الإسلامي العظيم؛ وذلك بإتقان لغة المخاطب، وتوضيح صورة الإسلام الصحيحة التي شوهها الغرب عبر إعلامهم.

فقد تمكن داعية سعودي بالمكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بغرب الدمام (نور) من إقناع عروس كندية في العقد الثاني من عمرها بالإسلام عبر موقعي «الفيسبوك» و«سكايبي»، وأعلنت إسلامها تزامنا مع حفل زواجها في بداية العام الميلادي الحالي 2014 بحضور والدها، وأكد فضيلة الشيخ يوسف الرشيد، مدير المكتب على ممارسة دعاة المكتب هذه الدعوة الإلكترونية باستخدام آخر وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثات التقنية التي وجدت تفاعلا حقيقيا، حيث يوجد أكثر من 100 ألف طالب مستفيد من برامج الدعوة عبر الإنترنت، مع دعاة المكتب على مستوى العالم بأستراليا وبريطانيا والهند وبنجلاديش والفلبين، والتي حققت نتائج ممتازة (9).

4- محاربة المجموعات التي تقوم بتشويه صورة الإسلام والضغط على موقع الفيس بوك لإغلاقها، وهذا ما حدث بالفعل مرارا وتكرارا في مواقف مختلفة.

ثانيا- تويتر «TWITTER»: هو أحد المواقع التي تقدم خدمات مجانية للتواصل الاجتماعي والتدوين المصغر، ويسمح للمستخدمين بإرسال أهم اللحظات في حياتهم في شكل تدوينات نصية لا تزيد عن 140 حرفا؛ وذلك من خلال خدمة الرسائل النصية القصيرة، برامج التراسل الفوري، أو البريد الإلكتروني، ويتميز باستقطاب صفوة القوم، وقطاع لا بأس به من الشباب من الجنسين.

ثالثا- الإيميلات (E:mails) ومجموعات البريد الإلكتروني

(Hotmail - Yahoo maktoob - Gmail)

التي يمكن من خلالها:

1- نشر فكرة إسلامية معينة، أو إرسال رسالة مؤثرة تصحح مفهوما أو تدعو إلى خلق فاضل.

2- التذكرة بفضل المناسبات الإسلامية في وقتها، والدعوة إلى العمل الصالح فيها: ومثال ذلك: دعوة من لديك على بريدك الخاص إلى صيام الاثنين والخميس، أو إلى صدقة جارية أو قراءة القرآن.

3- المشاركة في أعمال خير، أو أعمال اجتماعية تخدم المجتمعات الإسلامية من خلال التعاون الإيجابي على القيام بها، ودعوة رجال الأعمال للمشاركة فيها.

رابعا- المدونات (bloggers): التي يمكن من خلالها القيام بالآتي:

1- توصيل رسالة المدون إلى متصفحي مدونته وتوجيه أفكارهم نحو الصالح.

2- يمكن من خلالها نشر مواعظ ومقالات وأخبار وتحليلات.

3- مواكبة الأحداث الجارية ونشر فكرة المدون وتعليقاته على الأحداث؛ وهو ما يجعلها أكثر فعالية وواقعية.

ويمكن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في عمل حملات إيمانية متواصلة، مثل حملة «كلمني فجرا» (CALL ME DAWN): لإيقاظ أكبر عدد من المسلمين لصلاة الفجر في جماعة، حملة «لا للتحرش» (NO HARSSEMENT):، حملــة «نصــرة غــزة وفلسـطين» (HELP GAZA)، حملات الحجاب، حملة ضد البنطلون الساقط، حملة نصرة الرسول  " صلى الله عليه وسلم" ، حملة علاج الفقراء، حملة نظافة البيئة، وحملة ضد ارتفاع الأسعار...الخ، وتوعية الشباب المسلم من الجنسين بعدم الوقوع في الرذيلة الافتراضية التي دمرت مستقبل كثير منهم، وتحذيرهم أشد التحذير من السقوط في شباك الأجهزة المشبوهة التي تجند فتيات في صورة أصدقاء، أو تطلب وظائف محددة ومغرية، فيتهافت إليها الشباب وسرعان ما يقعون فريسة لهذه الجهات.

هوامش :

1- عادل عبدالله هندي، وسائل التكنولوجيا الحديثة في خدمة الدعوة، متوفر:

http://islamselect.net/mat/87638.

2- عبدالكريم العجمي الزياني، استخدامات وتمثلات الشباب الليبي لشبكات التواصل الاجتماعي والإشباعات المتحققة منها (الفيسبوك نموذجا). دراسة ميدانية على عينة من طلاب جامعتي الفاتح وناصر الأممية في ليبيا.

3- صالحة الدماري، الطلاب والشبكات الاجتماعية -دراسة ميدانية في استخدامات وإشباعات طلاب كلية الفنون والإعلام للفيسبوك كشبكة اجتماعية، بحث مقدم ضمن متطلبات دبلوم الدراسات العليا، جامعة الفاتح، كلية الفنون والإعلام. 2010م.

4- مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها على الشخصية المسلمة، متوفربتاريخ27/8/2013

http://www.noslih.com/Article.aspx?Art_id=1790.

5- المرجع السابق.

6- موقع مصراوي، خبر بعنوان: «مسؤولة إندونيسية: الفيس بوك وراء حمل المراهقات والزواج المبكر» متوفر بتاريخ 3/5/2011م

http://www.masrawy.com/News/Various/General/2011/august/4/indonesia_face.aspx

7- - متوفر بتاريخ 5/1/ 2014

http://www.albushraa.com/?p=9771.

8- عادل عبدالله هندي، المرجع السابق.

 9- صحيفة وطنيات الإليكترونية، خبر بعنوان «الدمام» داعية سعودي عبر الإنترنت يقنع كندية في كندا بدخولها الإسلام، متوفر بتاريخ الجمعة 16 ربيع الأول 1435 / 17 يناير 2014.

et46

تحقيق- نشوه صالح :

 دم المسلم لماذا حرمته الشريعة الإسلامية؟ وماهو الواجب على المسلمين عندما تكثر الفتن والصراعات التي تؤدي لمزيد من سفك الدماء؟ وماذا عن رأي الشرع في المفقودين في الأزمات والفتن التي تفتك بالمسلمين؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها «الوعي الإسلامي» على رجال الدين الذين أكدوا على ضرورة الحفاظ على دماء المسلمين، لأن الله عز وجل أمر بعدم إباحتها بأي حال من الأحوال، بل إن الأمر يصل لأن تكون دماء المسلمين أهم عند الله من هدم الكعبة المشرفة.

وبينوا بأن الإسلام ينبذ العنف والقتل وترويع الآمنيين، لافتين إلى أن ما يحدث الآن في عدد من دول الأمة الإسلامية فتنة واضحة بين أهل الإسلام تستدعي عدم الانجرار في القتل رحمة بدماء هذه الأمة.. وإليكم التفاصيل:

بداية تقابلنا مع الداعية الإسلامي عضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ محمود عاشور الذي أكد بدوره على ضرورة حقن دماء المسلمين، وإنها من الواجبات الأساسية في منهج الشريعة الإسلامية التي تأمر المسلم بألا يشهر سيفه في وجه أخيه المسلم، والحديث النبوي الشريف في ذلك واضح، حيث جاء في صحيح البخاري: «حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبوبكرة فقال أين تريد يا أحنف؟ قال: قلت أريد نصر ابن عم رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يعني عليًا قال: فقال لي يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قال: فقلت: أو قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه قد أراد قتل صاحبه» كما أن الآية الكريمة في سورة النساء تقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.

آملًا أن يسعى علماء الدين الإسلامي الحنيف في نشر الجوانب المشرقة في الدين الحنيف، لأنه ليس دين ترويع الناس وإباحة دمائهم بل هو دين الحفاظ على النفس البشرية التي خلقها الله عز وجل.

أما الداعية الإسلامي والخطيب في وزارة الأوقاف المصرية الشيخ أحمد موسى الذي علق على الأحداث الدموية التي تمر بها بعض الدول العربية قائلًا: الأمة الإسلامية يختبرها الله عز وجل ما بين الوقت والآخر، وأعظم المصائب التي حرمها الإسلام هي أن يقتل المسلم أخاه المسلم، سواء أكان ذلك لأغراض سياسية أو دنيوية بحتة، كما جاء في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وفي مواضع كثيرة يحذر الله تعالى من سفك الدماء، منها: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وكذلك يقول رب العزة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} فأين الذين يبيحون دماء المسلمين بغير ذنب.

ويتفق الداعية الإسلامي الأستاذ بجامعة الأزهر د.فؤاد عبدالمنعم مع الآراء الداعية لحقن دماء المسلمين، حيث أكد بأن الدين الإسلامي يشدد على عدم الاقتراب من حرمة الدماء بين المسلمين كما أن سماحة الدين الإسلامي تأمر المسلمين بعدم استباحة أهل الديانات الأخرى، وفي هذا يقول الرسول محمد  " صلى الله عليه وسلم"  «من آذى ذميًا فقد آذاني» لافتًا إلى أن الإسلام طلب من المسلمين ضرورة التعاون على البر والتقوى، ورفض التعاون على الإثم، موضحًا بأن ما يحل بالأمة الإسلامية من فتن صارخة شجعت أن يقتل المسلم أخاه المسلم بدم بارد بصورة تقشعر لها الأبدان مطالبًا كل الأطراف المتنازعة بالجلوس على طاولة الحوار، لأنه من الممكن معالجة كل هذا بعيدًا عن الدماء، سواء كانت خلافات عائلية بسبب الميراث، أو خلافات سياسية يكون باعثها الصراع على الحكم، داعيًا بضرورة الاقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم، حيث إنهم بعد وفاة الرسول محمد  " صلى الله عليه وسلم"  اختلفوا فيمن يكون خليفة للمسلمين، ولكنهم في الأخير أقروا البيعة للصحابي الجليل أبوبكر الصديق  "رضي الله عنه" .

وكل الصحابة امتثلوا لذلك من أجل الحفاظ على تماسك الدولة الإسلامية، مشددًا على أهمية تعاون كافة المؤسسات التعليمية بزرع قيم التسامح ونبذ العنف من أجل الحفاظ على دم المواطن والجندي ليحل الوئام بين أفراد الشعب، مطالبًا بضرورة الابتعاد عن التشدد في الرأي والمبالغة والتهويل واستخدام الوسائل الإعلامية في بث الفتن، لافتًا إلى أهمية أن يتعلم المسلم احترام الرأي الآخر دون حملات التخوين والتشهير التي تزيد من حالات الاحتقان.

وفي هذا الإطار يحذر الخبير الإعلامي محمد الحملاوي من وسائل الإعلام الموجهة التي تغذي الصراعات والفتن، خاصة وأن هذه الأبواق تكون في أحيان كثيرة وقودًا لنار الحروب، لافتًا إلى أن الإعلام إما أن يكون أداة للتصالح وإشاعة أجواء التسامح، وإما أن يكون شرًا على المجتمعات، وأكد أن الإعلام قد لعب دورًا كبيرًا في تأجيج الفتن بين التيارات السياسية المتناحرة، وبين الشيعة والسنة، وبين المعارضين والمؤيدين للحكم في بعض الدول العربية، وأعرب الحملاوي عن امتعاضه من بث مشاهد الجثث والدماء المتناثرة الناتجة عن هذه الصراعات، ويحلل أستاذ علم النفس د.صلاح عبدالهادي نفسية المسلم الذي يتقبل رؤية دماء أخيه دون أن تتحرك مشاعره، لافتًا إلى أن هذا المسلم يعاني من خلل نفسي ناتج عن حالة ارتباك وغموض بسبب عدم وضوح الرؤية أمامه، خاصة وأن وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في غسل الأدمغة عن طريق شحن العقول بالكذب حتى يصدق المسلم هذا الكذب، وطالما أن الإعلام لديه قدرة على قلب الحقائق فمن الطبيعي أن تجد بعض النفوس لا تتحرك بالحزن على مخالفيهم حتى ولو وجدوهم في بركة من الدماء، بل إن الأمر وصل إلى التشمت في هذه الدماء، لافتًا إلى أن هذه المآسي تكثر في المجتمعات التي تستخدم الحروب الدعائية لتشويه الآخر، وأشار إلى أن خطر الإعلام في بعض الأحيان يكون أقوى من الأسلحة الفتاكة، ويطالب د.عبدالهادي الآباء والأمهات أن يبعدوا أولادهم عن المشاهد التي تبثها وسائل الإعلام التي تظهر القتل وأشلاء الجثث والدماء المتناثرة حتى لا يشب الأبناء على رؤية هذه المشاهد.

200122

د. مسعود صبري:

شاع بين بعض الشباب على مواقع الإنترنت التعارف بين الشباب والفتيات، ويقع الحب بينهما، ولبعد المسافات بين الشاب والفتاة، ولشدة التعلق بينهما يتزوجان على الإنترنت بصيغة أن تقول الفتاة للشاب: زوجتك نفسي، ويتعاملان كأنهما زوجان عبر الإنترنت لبعد المسافات..

وتفاجأ الفتاة بعد فترة باختفاء الشاب الذي لا تعرف عنه كثير تفاصيل، ثم على أرض الواقع يتقدم لها شاب ليتزوجها، لكنها تظل في حيرة، هل هي زوجة لمن تزوجها على الإنترنت ثم اختفى؟ هل تبقى أسيرة على الزواج الالكتروني، حتى يطلقها زوجها الالكتروني الذي فر منها بعيدا لا تعرف عنه شيئا، أو ربما يظلان على علاقة لكن لبعد المسافة – كما يزعمان- لا يستطيعان الزواج، ولكنها تشعر بحاجتها إلى الزواج الحقيقي، وربما يتقدم بعض الخطاب وترفض زعما أنها متزوجة، لكنها تظل في صراع بين حاجتها للزواج الحقيقي لمن تقدم لها، وبين زواجها الالكتروني..

إن هذه العلاقة  نوع من الوهم يحلل الشاب والفتاة لكليهما العلاقة المحرمة تحت مسمى الزواج حتى يخففا الضمير المؤنب لهما، وحتى يوهما نفسيهما بالزواج كي يمارسا ما يحبان تحت غطاء وهم الزوجية.

فالزواج في الشريعة والعرف الاجتماعي له شكل معين عرفته البشرية منذ القدم، وكان موجودا على مر العصور والدهور وفي كل البيئات والأعراف، واشتهر بين كل الأقوام وإن اختلفت بعض تفاصيله، وقد عرفته العرب الجاهلية وأقره الإسلام، من أن يذهب الرجل إلى والد الفتاة ويطلب الزواج منها، فتتم الموافقة منه ومن الفتاة ومن أبيها، ويكون بينهما شهود، ويدفع لها مهرا، ثم تنتقل المرأة إلى بيت زوجها بزفاف ونحوه، ويعرف كل الناس أن فلانا قد تزوج فلانة، ويعيشان حياة مستقرة بينهما تحت مرأى ومسمع من الناس بعد استيفاء الشروط الشرعية التي توجت بما يعرف حديثا بالتوثيق عند المأذون، أو في الدوائر الشرعية.

إن من أهم مقاصد الزواج في الإسلام هو السكن والارتباط والحياة الدائمة والمشاركة في الحياة؛ لأن الأسرة هي بنية المجتمع الرئيسة، وقد امتن الله تعالى على عباده بذلك فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21].

ولما خلق الله تعالى حواء من ضلع آدم – عليه السلام- وكان نائما، فوجد امرأة بجواره، فسأل الملائكة: من هذه؟ قالوا: حواء. قال: ولم خلقت؟ قال: لتسكن إليها.

إن الزواج في الإسلام أكبر من أن يكون متعة جنسية واتصالا جسديا بين اثنين، وإلا فالزنى الذي حرمه الله تعالى في كتابه هو اتصال جنسي، وهذا الفارق الكبير بين الزواج والزنى، فالزواج فيه المتعة الجنسية التي هي فطرة وحاجة لكل إنسان، لكنه في إطار شرعي واجتماعي لا يخجل الإنسان منه، لكنه في الوقت نفسه لا يكون الزواج مجرد متعة جنسية، بل شراكة اجتماعية راقية بين الرجل والمرأة.

إن العلاقة بين الزوجين في الإسلام لا تتوقف على أداة تواصل مؤقتة، فالعقد في الإسلام مبني على الدوام، ولهذا حرم الإسلام نكاح المتعة؛ لأنه مجرد نظر إلى متعة جنسية مؤقتة، أو لمصلحة مؤقتة، إنه يتخطى حدود الدنيا إلى حدود الآخرة، فكما أن الزواج في الدنيا فهو يمتد إلى الآخرة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور: 21].

والزواج في الآخرة شرطه الزواج الشرعي في الدنيا، لكنه منزوع الخلافات والمنغصات، فما في الآخرة إلا السعادة والفرح والسرور، وكل ما بين الزوجين من خلاف واختلاف لا مكان له في الآخرة.

وفي الزواج مالا يحصى كثرة من الفوائد والمقاصد من حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق على الزوجة والأولاد، وصيانة النفوس من الزنى المحرم، وتكثير عباد الله تعالى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإعمارا للأرض، والمشاركة الاجتماعية بين الزوجين، وتحقيقا لغريزة الأنس بين الرجل والمرأة، وإنشاء لجيل جديد، وإمضاء لسنة الله تعالى في الخلق من البقاء إلى يوم القيامة.

وكل هذا لا يتحقق بما يعرف بالزواج الالكتروني الذي هو ليس زواجا، ولا يترتب عليه أي آثار، فهو والعدم سواء، فتلك العلاقة العابرة المحرمة لا يترتب عليها أي شيء، ولا تكون الفتاة زوجة للمتحدث معها، بل هو مجرد حديث وكلام لا قيمة له في ميزان الشريعة إلا كونه كلاما محرما.

فالزواج في الإسلام له شروط وأركان، إن لم تتوافر؛ فلا يعد زواجا شرعا، من ذلك الإيجاب والقبول، فلابد من رضا الفتاة بمن تتزوج، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم زواج أب زوج ابنته دون رضاها، ومن شروطه موافقة الولي من الوالد أو من يقوم مقامه، كما قال تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ، فمن تزوج امرأة بغير إذن ولي لم يصح الزواج. ومن أركانه المهر، كما قال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، كما اشترط الإسلام العفة والأخلاق فيمن يتزوجها فقال: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]،أي ليس لهن أصدقاء.

ومن شروطه أن يشهد المسلمون على ذلك العقد، كما في حديث ابن حبان عن عائشة – رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك، فهو باطل".

فهذا الزواج الذي شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله، وما سوى ذلك فليس بزواج شرعا، ولا اعتبار له مطلقا، وتوبة الفتاة مما يعرف بزواج زوجتك نفسي بالزواج الذي شرعه الله تعالى من أحب الأعمال إلى الله تعالى، بل هو الواجب، ولا تجد الفتاة في نفسها حرجا من ترك المحرم إلى ما أحل الله تعالى.

lqrn 11112

د. أمان محمد قحيف :

لعل من أفضل ما يناط بالعقل العربي والإسلامي تعلمه من القرآن الكريم في اللحظة الحضارية الراهنة، الكيفية السليمة للانخراط في حوار فكري ومعرفي مع من ينتقد حضارتنا، وثقافتنا، ولغتنا، وديننا، وطرائق تفكيرنا - من كتّاب ومثقفي الحضارات الأخرى.. إذ الملاحظ أن فضاءنا الثقافي لم يتعامل مع العديد من الأطروحات الفكرية والثقافية التي تمسنا من قريب أو من بعيد بآليات ناجعة وأساليب مثمرة بالقدر الكافي؛ فمازال أسلوب تناولنا لأفكار الآخرين بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسة المتأنية والتحليل الموضوعي السليم.. ولعل ما حدث إبان ظهور ردود أفعال ثقافتنا المعاصرة على ما طرحه «صمويل هنتنجتون» في «صدام الحضارات» يظهر هذا المعنى ويؤكده؛ إذ تبين أن مسافة مازالت موجودة بيننا وبين التناول الواعي الخلاق لرؤى الآخرين وأفكارهم، وبالتالي لم نتمكن من التعامل مع رؤى الآخرين وتصوراتهم بشكل إيجابي وفعال.. فقد اتسمت ردود أفعال ثقافتنا حول ما طرحه «هنتنجتون» بالعاطفية، والانفعالية، والخطابية، إلى حد كبير.

والراصد للحركية الفكرية في عالمنا العربي والإسلامي وقتذاك يتبين له غياب الخطاب التحليلي والرؤية المنهجية في تناول هذه القضية، وتغلَّب الخطاب المعتمد على المهارات اللفظية والمماحكات الفكرية التي تتوقف عند القشور دون ملامسة جوهر الموضوع ومكنونه ومحتواه.. والدليل على ذلك أننا لم ننجز رؤية فكرية متكاملة تتسم بالنسقية والمنهجية في الرد على الأفكار والرؤى والتصورات التي طرحها هذا الكاتب الذي كان مغمورا قبل نشره لهذه الأطروحة.. لقد جاءت الردود التي أفرزتها زوبعة «صدام الحضارات» أشبه بمجموعة من الأفكار المتناثرة، أو المقتبسة من هنا وهناك، واختفى الموقف الفكري القائم على أسس واضحة من التحليل المعتمد على أساسيات البحث ومنهجيته.

واللافت أن يكون هذا حالنا في الوقت الذي نمتلك فيه تراثا فكريا ضخما، به العديد من المؤلفات والمراجع التي تتحدث عن منهجية الجدل والحوار مع الآخر.. وفيه العديد من المؤلفات التي تحض على الوعي النقدي، وتتحدث عن أصول التباينات الفكرية ومبادئها وأخلاقياتها!.

وإذا كنا نهدف - كأمة - إلى أن تكون لدينا المقدرة الفعالة على التواصل الفكري والحوار الجدلي مع مَن هم من خارج إطار حضارتنا، فإن الأمر يقتضي الالتزام بمجموعة من الأسس والعوامل التي تكون في مجملها منهجا متكاملا يساعدنا على محاورة الآخرين وممارسة الوعي النقدي معهم، بما يساهم في إجلاء الحقائق وتوضيح الأمور.. هذا المنهج يرتكز على مجموعة من الأسس وردت في القرآن الكريم، ونشير إليها على النحو التالي:

أولا: التعامل مع النقد بسعة أفق وروية

فمن طبيعة العقل الواعي أنه غير متسرع، بالتالي فهو لا ينفعل، ولا يغضب إذا دخل في حوار مع الآخرين.. ولقد أعطى القرآن الكريم درسا للبشرية جميعا، وليس للمسلمين وحدهم، في سعة الصدر ورحابة الأفق، عندما طلب من النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أن يعرض عن الذين يخوضون في آيات الله حتى ينتهوا عن هذا الأمر تماما، موضحا أنه لا جناح عليه في مخالطتهم بعد ذلك إذا انتقلوا بالحديث إلى موضوعات أخرى.. يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام:68).

إلى هذا الحد بلغ الحلم والصبر على المتطاولين والمنتقدين للإسلام.. إن كل ما يطلبه القرآن الكريم هنا هو أن يعتزل المسلم مَن يخوض في آيات الله تعالى؛ حتى ينتهي عن ذلك وينشغل بأمر آخر، ولا مانع ساعتها من مخالطته والتعامل معه في إطار الثوابت الإسلامية - التي جاءت في القرآن الكريم وأوضحتها السنَّة النبوية المطهرة - للتعامل مع الآخر.

والحق أن القرآن الكريم أسس لقاعدة مهمة في هذا السياق، وهي اللجوء إلى الهدوء والسكينة في حالة قيام الآخرين بطرح ما يتعارض مع موروثنا وثقافتنا من أفكار وآراء وتصورات.. إنه الهدوء الذي يجعل الإنسان ممتلكا لزمام أمره، ولا يفقده صوابه أو عقلانيته.. كي ما يتمكن من التفكير الهادئ، ويستطيع الدخول في حوار رصين ينطلق من أسس متفق عليها، وينتهي إلى نتائج يفرزها الانتقال المنطقي المنظم من فكرة إلى أخرى.

والحق أن الآية التي أشرنا إليها سابقا تقع في سورة «الأنعام»، وهي مكية، حيث لم يكن المسلمون من القوة بحيث يردعون من يتطاول على دينهم وعقيدتهم.. غير أن القرآن الكريم اتخذ الموقف نفسه حيال نفس الأمر عندما حدث والمسلمون بالمدينة المنورة، وكانوا يمثلون القوة العظمى بها، بل إن القرآن الكريم ذكّرهم بأن هذه القضية سبق معالجتها من قبل، قال ربنا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا  وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } (النساء:140).

وإذا كان الله تعالى قد أوقف الأمر عند حدود عدم مجالسة من يخوض في آياته تعالى، وطلب منا أن نقيم معه «مقاطعة مؤقتة» حتى ينتقل إلى حديث غيره؛ فذلك يتوافق تماما مع المنهاج الإسلامي الذي يقوم على جواز التواصل مع غير المسلم، ما لم يسع إلى حربنا أو إخراجنا من ديارنا أو ديننا، قال العزيز الحكيم: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).

من هنا فإن المنهج القرآني على توافق تام - لأنه تنزيل من رب العالمين - فيما يتعلق بالموقف من الرؤى النقدية التي يطرحها الآخرون، من حيث أنه لابد من التعامل مع تلكم الرؤى والتصورات من خلال ذهن متفتح وعقل مستنير متسامح غير متشدد.. ولا يجوز للمسلم تجاوز مرحلة «المقاطعة المؤقتة» هذه إلا إذا تخطت الأمور حدود النقد إلى محاولات المحاربة في الدين أو الإخراج من الوطن.

وإذا كان الإسلام الحنيف قد انتهى إلى ضرورة محاربة من يحارب المسلمين في دينهم وأوطانهم، فإنه يتفق في ذلك مع كل الدساتير والقوانين التي تعارفت عليها الأمم واتفقت عليها الحضارات، فلا يوجد دستور أو قانون في الدنيا كلها يمنع الإنسان، أي إنسان، من الدفاع عن وطنه ومعتقداته، بل إن القوانين المعمول بها دوليا تعاقب من يتخاذل في الدفاع عن هذين الأمرين، الدين والوطن.. من ثم فلا مجال للتطاول على تشريعات الإسلام الحنيف من هذه الناحية، بحجة أنه أجاز القتال.

ومن هنا أقرت المنظمات الدولية الدفاع المسلح من أجل تحرير الأوطان، وتم إقرار الحرية الدينية التي تعطي لكل إنسان الحق في أن يعتنق ما يشاء من الأديان، وهذا الأمر يتفق شكلا وموضوعا مع التصور الإسلامي الذي أكد حرية الاعتقاد من خلال قول العزيز الحكيم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256).. وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29).

ثانيا: استيعاب ما عند الآخر

الحق أن مما يلاحظه الراصد لما يحدث في ثقافتنا عند وجود نوع من الحراك الفكري أن ثمة تعجل - لدى البعض - في الرد على من وجه إلينا سهام نقده.. وهذه نقطة لها أهميتها، لأنه لكي تحسن الرد على أحد فلابد أن تحسن استيعاب ما عنده من أفكار.. إن التعجل عادة ما يكون مصحوبا بحماس وحسن نية، لكن هذه الأمور ليست ناجعة في محاجة الآخرين ومناقشة أفكارهم.. لابد إذن من التؤدة، والتروي، والدرس، والتحليل.. ولا مانع من أن نبدأ الحوار بأن نبين للآخر ما فهمناه من مقصوده، ونشرح رؤيته كما وصلتنا كي ما يكون على ثقة من أننا استوعبناه وأدركنا أهدافه ومراميه.. على النحو الذي فعله الإمام «أبوحامد الغزالي ت 505 هـ / 1111 م» الذي شرح «مقاصد الفلاسفة» في كتاب خاص قبل أن يرد عليهم في «تهافت الفلاسفة» (1).

والحق أنه يتبين للمتأمل في كتاب ربنا أن القرآن الكريم يذكر قول المنتقدين - للوحي المنزل - أو شبهتهم قبل أن يرد عليها.. وهذا أمر لا نقف عليه في أية حضارة أخرى، فمن ذا الذي يعطي خصمه الحق كاملا لدرجة أنه يذكر له شبهته، ويذكر له حجته التي يحتج بها، قبل أن يقوم هو بدحضها والرد عليه؟

لقد مارس القرآن الكريم ذلك ليعطي للآخر حقه في إبراز ما عنده من أفكار وتصورات حول القضية الإيمانية.. وهذا ظاهر في أكثر من موضع من كتاب الله تعالى، وإليك بعض الأمثلة:

أ – لقد زعم بعضهم أن الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  يتعلم القرآن من شخص آخر، وفي هذا نفي للوحي وتكذيب للنبي  " صلى الله عليه وسلم" ، فقال تعالى مثبتا ومبرهنا على تهافت عقولهم وتفاهتها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103).. وهكذا ساق القرآن الكريم ردا منطقيا، قضى به على حجتهم وأبطل به زعمهم، من دون أن يغمطهم حقهم في التعبير عن رأيهم، حتى وإن كان من الآراء الباطلة والمزاعم المدحوضة.

ب – ولأنهم لم يستوعبوا فكرة الوحي بشكل سليم فقد زعم بعضهم أن القرآن الكريم ليس منزلا، بل هو أضغاث أحلام، أو كلام مفترى على الله تعالى، أو شعر.. وتناول القرآن الكريم هذه القضية بمنتهى الوضوح والشفافية، فعبَّر عن رأيهم بقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (الأنبياء:5).. ثم عادوا فاتهموا الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  بأنه شاعر مجنون، وذكر الله تعالى ذلك بقوله: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:36).. وأورد القرآن الكريم قولا آخر لهم في نفس المعنى، حيث قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور:30).

إلى هذا الحد أعطى القرآن الكريم الآخرين حقهم في أن تطرح وجهة نظرهم، وينزل بها نص قرآني يتعبد به.. الأمر الذي يؤكد لنا ارتقاء وسمو المنهج القرآني في التعامل مع المنتقدين، ويؤكد من جهة أخرى مدى تسامحه معهم وصبره عليهم، ويبرز أيضا حرصه الشديد على أن يواجه الفكر بالفكر، وليس بأية وسيلة أخرى.

ج – وكان مما ادعوه وزعموه أيضا أنهم وصفوا القرآن الكريم بالسحر، قال تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتنا بَيِّناتٍ قال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الأحقاف:7-8).

والحق أنهم وصفوا القرآن بالسحر لأنه يؤثر في نفس وعقل وروح من يسمعه تأثيرا كبيرا، فبدلا من أن يعترفوا بأنه كلام معجز منَزَّل من السماء وليس من أقوال البشر؛ ذهبوا يدعون أنه من أقوال السحرة وأفعالهم، متأثرين في زعمهم هذا بثقافة السحر والسحرة التي كانت منتشرة في بيئتهم.

ولنا أن نرد على هذه الفرية من خلال نقطتين، هما: أولا: لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن القرآن الكريم حريص طوال الوقت على رفض تلك الترهات والخرافات!. ثانيا: إذا كان القرآن الكريم سحرا فلماذا لم يسحر كل مناهضيه ومعارضيه؟ أم أنه كان سحرا على مجموعة من الناس وليس سحرا على الآخرين؟!.

د – ومما عرضه القرآن الكريم من ادعاءاتهم أيضا أنهم لما قرأوا القرآن ووجدوا فيه بعض السجع، ذهب جماعة منهم إلى الزعم بأن القرآن سجع وكهانة؛ مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} (الطور:1-4).. فرد القرآن الكريم على هذا الزعم بقول الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42)} (الحاقة:38-42).. وورد في هذا المعنى عدة آيات منها قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } (الطور:29).. وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (التكوير:25).. ورد ربنا سبحانه وتعالى على هذا الادعاء بما يدحضه ويظهر ضعفه وسذاجته قائلا {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) } (الشعراء:210-212).. ثم يوضح القرآن الكريم أن الشياطين لا يتعاملون إلا مع نوعية معينة من البشر: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} } (الشعراء:221-223).. فالشياطين كذبة ويتعاملون مع الأفاكين والكذبة أمثالهم.

هـ - ومما أبرزه القرآن الكريم من دعاويهم الواهية وطلباتهم الطائشة - أيضا - ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } (الفرقان:32).. وفي نفس الآية رد الله تبارك وتعالى قائلا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان:32).. فالعلة في نزوله منجما هي أن يتم تثبيت قلب النبي  " صلى الله عليه وسلم"  به في مواجهة ما يتعرض له من محن ومصاعب.. وثمة علة أخرى تتعلق بارتباط القرآن الكريم بمعالجة كل واقعة حال حدوثها، وهي أنه لو نزل القرآن الكريم كله مرة واحدة لتعجبوا من كثرة موضوعاته وتعدد قضاياه، وأنكروه واعترضوا عليه.

والخلاصة هنا: أن القرآن الكريم بلغ الذروة في النزاهة في عرض فكر خصومه ومنتقديه ليعلّم الناس جميعا أن الحوار الهادئ المستنير هو الآلية الوحيدة الناجعة في تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.

ثالثا: القدرة على نقد الذات

من الأسس التي نرى أن يقوم عليها علم «نقد الأفكار» هو أن يقوم الحوار الفكري على استعداد الذوات المتحاورة للاعتراف بوجوه التقصير لدى الأنا، إن وجد، مع الاستعداد أيضا للاعتراف للآخر بحقه ومكانته.. غير أنه يتبين للراصد للكتابات - شبه السجالية - التي تنتجها مطابعنا وبعض المطابع الغربية أو الشرقية على السواء- أن بعض الكتاب سواء من هنا أو من هناك يتبنون وجهة نظر مفادها أن الأنا هي الأفضل دائما، وأن الآخر هو المسؤول عن كل شيء غير مقبول وغير حضاري.. فهناك من الأقلام الغربية من لا يكف عن التذكير بأن العرب حَمْلٌ على الحضارة، وأن الغرب هو من ينتج لهم كل متطلبات حياتهم, ويزعم بعضهم أن الفكر والإبداع غربي في القديم والحديث.. وبالمقابل منا أناس يطنطنون طوال الوقت بمسؤولية الغرب عن تخلفنا، بسبب نظرته الاستعمارية لنا ولثرواتنا.. ويتهمون الغرب بأنه يحتكر التكنولوجيا، ناسين أو متناسين عدة أمور:

أ – أن الغرب لا يحتكر التكنولوجيا بدليل أن مجتمعات شرق آسيا قد نجحت إلى حد كبير في اكتساب العلم والتكنولوجيا، وأضحت تمتلك مستويات متقدمة من الاقتصاد والمعرفة، بما يتيح لها أن تتنافس مع دول الغرب الأوروبي، وربما تتفوق عليها.

ب - عجزنا وتقصيرنا نحن عن الوصول إلى التكنولوجيا، سواء كان ذلك بسبب قصور في تنمية القدرات الإبداعية في طرق التعليم ببلادنا العربية والإسلامية، أم بسبب كسلنا واعتمادنا على الآخر!.

ج – إن أحدا لن يتصدق علينا بالمعرفة العلمية.. من ثم فلابد من بذل الجهد والعرق والمال من أجل الوصول إلى المفتاح السحري للتكنولوجيا، إذا أردنا أن نكون من الأمم التي تسمع لها كلمة ويؤخذ لها رأي في قضايا العالم ومسائله.

والحق أن تاريخ ثقافتنا زاخر بما يفيد أننا أمة تعترف لغيرها بالفضل, إذا كان له ذلك، فـ «ابن رشد» -مثلا- ذهب إلى أنه علينا أن نطلع على ما عند غيرنا، فإن وجدنا فيه خيرا أفدنا منه وشكرناهم عليه، وإن كان غير ذلك تركناه وعذرناهم (2).

الخلاصة

والخلاصة أن التناول الحقيقي لقضية حوارية يجب أن يتسم بالموضوعية، والموضوعية تعني عدم السعي نحو تبرئة الذات ومدحها والتغني بأمجادها طوال الوقت، بل تعني التحليل العلمي السليم، القائم على أسس معرفية تنطلق بالدرجة الأولى من الوعي بهدف النقد والتحاور بين الطرفين، وبأن المصلحة يجب أن تكون متبادلة.

إن عالمنا المعاصر بات متداخلا تداخلا شديدا، والأفكار تنتقل من هنا إلى هناك من دون تصريح ولا استئذان.. بالتالي فعلينا أن نسعى لامتلاك آليات فكرية تتيح لنا التواصل الواعي مع الجميع، الأمر الذي يجنبنا الانكفاء على الذات، وينجينا من الاستلاب الحضاري.

الهوامش :

(1) ألف الإمام أبوحامد الغزالي كتاب «مقاصد الفلاسفة» ليبين أنه فهم فلسفتهم وأفكارهم على هذا النحو.. ولقد وفق الغزالي في ذلك كثيرا لدرجة أن بعضهم قال إن الغزالي شرح آراء الفلاسفة أفضل من شرحهم لها، ثم عمد بعد ذلك إلى الرد على أفكارهم في كتاب آخر سماه «تهافت الفلاسفة»، والكتابان مطبوعان بدار المعارف بمصر.

 (2) ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، تحقيق د. محمد الشحات الجندي، ص10.

1926801222

د. يحيى حسن وزيري :

عندما نذكر أرض الله الحرام، فإننا نعني بذلك مساحات محددة من مكة المكرمة (وينطبق ذلك أيضا على المدينة المنورة)، وذلك طبقا لما ورد وجاء ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ويروى أن أول من نصب حدود الحرم إبراهيم عليه السلام، ثم إن قريشا قلعوها في زمن النبي  " صلى الله عليه وسلم" ، فشق ذلك عليه، ثم إنهم أعادوها وجددها النبي  " صلى الله عليه وسلم"  (1)، فقد روى أبونعيم عن ابن عباس  "رضي الله عنه" ، أن النبي  " صلى الله عليه وسلم" : بعث عام الفتح أسدا الخزاعي فجدد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم وضعها يريه إياها جبريل» (2).

ويخبرنا القرآن الكريم عن حرمة مكة المكرمة في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى  إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص:57)، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت:67)، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ   وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل:91)، كما يوضح القرآن الكريم في موضع آخر حرمة الصيد على المحرم في قول الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (المائدة:96).

ويوضح الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  المعاني الجليلة الواردة في الآيات القرآنية الكريمة السابقة، في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحج عن حرمة مكة (3): عن ابن عباس  "رضي الله عنه"  قال: قال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يوم الفتح: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وقال يوم الفتح: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر».

فالحديث الشريف ينهى بوضوح عن قطع أشجار الحرم ونباته، وإن كانت شوكا، كما ينهى عن تنفير صيد الحرم، فما بالنا بصيده، وهو ما يشير إلى أهمية المحافظة على البيئة الطبيعية لمكة المكرمة بكل عناصرها النباتية والحيوانية.

كما أنه يحرم القتال بمكة المكرمة، ففي الصحيحين: أن عمرو بن سعيد لما أراد بعث الناس إلى مكة لقتال ابن الزبير، قال له أبوشريح: «يا أيها الأمير أحدثك حديثا سمعته أذناي ووعاه قلبي، أنه  " صلى الله عليه وسلم"  قال: إن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها، فقولوا: إن الله عزوجل أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».

وجدير بالذكر هنا أن نوضح أن الرسول  " صلى الله عليه وسلم" ، قد حرّم المدينة المنورة وقرر حدود الأرض الحرام بها، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه (4)، عن أنس  "رضي الله عنه"  عن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين»، والحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة، وأما المحدِث فيروى بكسر الدال (وهو فاعل الحدث) لا بفتحها وهو الأمر المبتدع نفسه.

كما روى الإمام مسلم في صحيحه (5)، عن رافع بن خديج  "رضي الله عنه"  قال: قال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم ما بين لابتيها». (يريد المدينة). و«اللابّة»: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة بين حرتين.

وبذلك يتضح لنا سبق المنهج الإسلامي من خلال القرآن والسنة الصحيحة في حماية البيئة الطبيعية للمدن، وهو بذلك قد سبق ما يعرف اليوم بنظام «المحميات الطبيعية» بتحريمه الصيد أو قطع الأشجار في مكة والمدينة، ولا يظن أحد أنني أذهب بالحديث بعيدا عن السبب الذي سيق من أجله وهو تقديس هذه الأماكن، وأن تبقى بقعا آمنة يأمن كل مخلوق فيها على نفسه، غير أن هذا الأمر يجعل موضوع المحميات الطبيعية غير غريب أيضا عن الحس الإسلامي.

مما سبق يمكن أن نحدد الأحكام المتعلقة بالأرض الحرام والتي تتصل ببيئتها وحدودها، فيما يلي (6):

1- تحريم تنفير الصيد بمكة وقتله، ويستثنى من ذلك الفواسق الخمس لحديث رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" .

2- تحريم قطع الشجر والشوك والخلى، ويستثنى من ذلك نبات الإذخر لحديث الرسول  " صلى الله عليه وسلم" .

3- تحريم أخذ لقطة الحرم إلا للتعريف.

ومن الأشياء المهمة أيضا التي تتعلق بالحرم المكي هو تحريم القتال وسفك الدماء فيه، فقد روى الإمام البخاري عن أبي شريح  "رضي الله عنه" ، عن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  (7): «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بِهَا دما ».

ولم يأذن الله لرسوله  " صلى الله عليه وسلم"  وللمسلمين بقتال فيها، إلا إذا ابتدرهم الكافرون بالقتال، قال تعالى: { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى  يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (البقرة:191).

وبناء على ما سبق فإننا إذا ما عقدنا مقارنة مع القوانين الوضعية بشأن المحميات الطبيعية، وما ورد في القرآن والسنة بشأن أحكام الحرم المكي، يتضح لنا سبق وتميز المنهج الإسلامي في هذا الصدد.

فإذا أخذنا القانون المصري في هذا الشأن كنموذج، فقد صدر القانون رقم 102 لسنة 1983م في شأن المحميات الطبيعية بمصر، لتوفير الحماية للموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي، وللحفاظ على الاتزان البيئي (8)، نجد أن المادة الأولى من هذا القانون تعرف المحمية الطبيعية على أنها: «مساحة من الأرض أو المياه الساحلية أو الداخلية تتميز بما تضمه من كائنات حية، أو نباتات، أو حيوانات، أو أسماك، أو ظواهر طبيعية ذات قيمة ثقافية، أو علمية، أو سياحية، أو جمالية». أما المادة الثانية من نفس القانون فتضع ضوابط التعامل مع تلك المحميات كما يلي: «يحظر القيام بأعمال، أو تصرفات، أو أنشطة، أو إجراءات من شأنها تدمير أو إتلاف أو تدهور البيئة الطبيعية، أو الإضرار بالحياة البرية أو البحرية أو النباتية أو المساس بمستواها الجمالي بمنطقة المحمية».

أي إن قانون المحميات الطبيعية في مصر يحظر تدمير أو إتلاف الحياة البرية (الحيوانات)، أو البحرية (الأسماك)، أو النباتية، وهو ما سبق إليه المنهج الإسلامي (القرآن والسنة) بحوالي أربعة عشر قرنا من الزمان، بل وتفوّق على القانون الوضعي ليس في قتل صيد البر فقط بل وتنفيره أيضا، ووصل نهيه بالنسبة للحياة النباتية بعدم قطع الشوك وليس فقط الأشجار الموجودة في أرض الله الحرام، بل وتحريم القتال وسفك الدماء.

وفي المادة السابعة من قانون المحميات الطبيعية بمصر عقوبات تتراوح ما بين الغرامة المالية والحبس، لمن لم يلتزم بما ورد في مواد القانون، وفي هذا الشأن أيضا نجد أن علماء المسلمين أوجبوا إيقاع عقوبة على من يقطع شجر الحرم.

فقد قال الواقدي (9): «لما أرادت قريش البنيان قالوا لقصي: كيف نصنع بشجر الحرم؟ فنهاهم وحذرهم في قطعها وخوفهم من العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحوق بالبنيان حول الشجرة حتى تحصل في منزله، قال: وأول من رخص في قطع شجر الحرم في البنيان عبدالله بن الزبير، حين ابتنى دورا بقعيقعان (جبل بمكة)، لكنه جعل دية كل شجرة بقرة، وكان يروى عن عمر أنه قطع دوحة كانت في دار أسد بن عبدالعزى، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، فقطعها عمر  "رضي الله عنه" ، ووادها (دفع ديتها) ببقرة».

وقال النووي (10): «اتفق العلماء على تحريم قطع أشجار مكة التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلأ، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطع، فقال مالك: يأثم ولا فدية، وقال الشافعي وأبوحنيفة: عليه الفدية، وأوجب أبوحنيفة القيمة، والشافعي في الكبيرة بقرة والصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس».

الخلاصة:

سيظل المنهج الإسلامي سبّاقا ومهيمنا على القوانين التي يضعها البشر في كل زمان ومكان، وهو ما ظهر في دراستنا هذه التي تناولت سبق القرآن والسنة في حماية البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين، واستخدام مصطلح «الأرض الحرام»، وهو مصطلح شرعي تتعلق به أحكام وواجبات شرعية، ولكن في نفس الوقت يسهم بطريقة مباشرة في الحفاظ على البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين، وكذلك الارتقاء بالتربية البيئية للمسلمين زوار الأماكن المقدسة في الحرمين الشريفين، وتهذيب سلوكهم في التعامل مع البيئة النباتية والحيوانية لأرض الله الحرام، مما ينعكس على سلوكهم بصفة عامة في بقاع الأرض المختلفة.

الهوامش

(1) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 63.

(2) انظر كتاب: الإصابة في تمييز الصحابة 1/183.

(3) انظر صحيح مسلم: (باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام).

(4) انظر صحيح البخاري: (كتاب فضائل المدينة).

(5) انظر صحيح مسلم: (كتاب الحج).

(6) البلد الحرام فضائل وأحكام، إعداد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى (1423هـ)، ص43 وما بعدها.

(7) انظر صحيح البخاري: (باب لا يحل القتال بمكة).

(8) يمكن الاطلاع على القانون المصري الخاص بالمحميات الطبيعية على شبكة الإنترنت.

(9) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 155.

 (10) بدر الدين الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص 226 ومابعدها.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

تربية إبداعية لأبنائك.. كيف؟

رويدا محمد - كاتبة وباحثة تربوية: يعرف الإبداع بأنه النشاط الإنساني المختلف عن المألوف، والذي يؤدي ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال