السبت، 27 يوليو 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

الدكتور أحمد زكي عاكف وتأديب العلم

د. محمود صالح البيلي - دكتوراه في الأدب والنقد: قيض الله سبحانه وتعالى للعربية من الكتاب من جمع ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

446 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

5 25 2015 10 21 01 AM

إبراهيم نويري :

علم الجدل أو علم مقارنة الأديان- حسب المصطلح الأكثر شيوعا في الوقت الحاضر- هو علم وفن المجادلة، ومقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة. 

وقد سار العقل المسلم- في عصور تألقه الحافلة- وفق هذا المنهج، حيث كان يحقق النصر تلو النصر للإسلام وحضارته وأمته.

وعبر أدوات هذا المنهج الفريد في مقارعة الحجة بالحجة وعرض الدليل على الدليل، اهتدت أقوام واعتنق الدين الحق أناس كثيرون من أهل الكتاب، ومن أجناس ومعتقدات مختلفة!

ويعتبر الإمام الباقلاني واحدا من العقول الجبّارة في فن المناظرة والجدل وبسط الأدلة وفق مقتضيات المنطق العقلي، ومما يروى عنه في هذا السياق أنه ناظر- ذات يوم- كبير بطارقة النصارى، فكان هذا الحوار الرائع الماتع:

• قال البطريق: هل انشق القمر لنبيكم حقا؟

• قال الباقلاني: نعم.

• قال البطريق: فلماذا لم يره إلا أهل مكة؟

• قال الباقلاني: يا هذا، هل نزلت المائدة على المسيح حقا؟

• قال البطريق: نعم.

• فقال له الباقلاني: فلماذا لم يرها أحد منكم؟ نحن قد آمنا بأن المائدة نزلت أيها البطريق، لأن الله تعالى أخبرنا بذلك في القرآن الكريم، فآمنا به كل من عند ربنا.

• قال البطريق للباقلاني: أوما سمعت عن عائشة زوج نبيكم؟

أراد اللئيم أن يطعن أم المؤمنين- رضي الله عنها- على غرار ما أثاره رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول وأتباعه المعاصرون!!

ورد الباقلاني في شموخ: أيها البطريق، هما امرأتان في التاريخ: امرأة لم تتزوج ومع ذلك ولدت، وامرأة تزوجت ولم تنجب.. ونحن برأنا التي لم تتزوج وأنجبت ولدا، لأن الله برأها وقال لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } (آل عمران: 43)، وأنتم اتهمتم أم المؤمنين التي تزوجت ولم تنجب، والله برأها من فوق سبع سموات وقال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (النور: 26).

فسكت البطريق هنيهة، ثم عاد يقول أو على الأصح يهذي: نبينا أطهر من نبيكم.. عيسى أطهر من محمد.  

قال الباقلاني وهو متعجب مما سمع: ولِـمَ؟

قال البطريق: لأن المسيح لم يتزوج ومحمد تزوج.

وسأل الباقلاني البطريق: أمتزوج أنت أيها البطريق؟

قال البطريق: لا.. لأن الزواج نجاسة.

فقال له الإمام الباقلاني: كيف تقول: إن الزواج نجاسة، ولم تتزوج أنت، ومع ذلك قلتم: إن الله تزوج بمريم؟

فهل أنت أطهر أم الله العلي القدير أيها البطريق؟! أنت لم تتزوج بقصد الطهارة، ومع ذلك قلتم إن الله قد تزوج.. أأنت أطهر أم الله؟!

وهنا ما كان من البطريق إلا أن صرخ قائلا: وهو يرتعش من هول الحقيقة البازغة: يا إمام، والله لقد قلت حقا ونطقت صدقًا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

هذا هو الباقلاني صاحب الأسفار النفيسة «إعجاز القرآن»، «كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الكفر والعناد»، «كشف الأسرار في الرد على الباطنية»، «المقدمات في أصول الديانات».. وهذا هو منهجه في الانتصار للحق ولعقيدة التوحيد الخالص، وهذا هو المنهج ذاته الذي التزمه العقل المسلم عبر حقب إيناع الحضارة الإسلامية السمحة وتألق الفكر الإسلامي الوضاء.

قصة أسير مسلم

وفي هذا السياق المتوهج بأشعة العقل، الطافح بمنادح النظر المؤمن، المسيج بحقائق الأدلة الغامرة نسوق - للقارئ الكريم- قصة هذا الشاب المسلم، الذي انتصر لدينه وعقيدته بسبب تضلعه في هذا الفن الإسلامي العجيب.. فن المناظرة، أو علم المجادلة، والقصة واقعية ومن حقائق تاريخ حضارتنا الرائدة.

قال التاريخ: سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة، طبعها الحزن بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السيئ وهم يخترقون بلاد الروم منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟!

ونظروا إلى زميلهم «واصل» الشاب الفقيه الذي ترك دراسته بدمشق واكتتب في هذه الغزوة الفاشلة، كان واصل يبدو غير مكترث بما حدث، فقد استمع إلى حديث رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" : «ما من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا استوفت أجرها كله»، ولكن واصلا كان مكتئبا لأمر

واحد، فهو يعلم أن الأمير بشيرا الذي يساقون إلى قصره كان مسلما ثم ارتد، وأن ثمن ردته هذه الإمارة العريضة التي يتطاول فيها! واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، سألهم عن دينهم، وجادلهم في بعض عقائده، فلما جاء دور واصل أبى أن يرد عليه بشيء، فقال له: ما لك لا تجيبني؟ 

فقال: لست مجيبك اليوم بشيء. فقال إني سائلك غدا فأعد لي جوابا، وجاء الغد، وأدخل واصل على الأمير الذي بادره الحديث بعد حمد الله والثناء عليه قائلا: عجبا لكم معشر المسلمين، حيث تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (آل عمران: 59)، وما يستوي عبد ورب!

ورأى واصل أن يستأمن لنفسه قبل أن يجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعزّ وأجلّ مما وصفت، وأما ما ذكرت من صفة هذين الرجلين عيسى وآدم فقد أسأت وأخطأت! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان، وينامان ويستيقظان ويفرحان ويحزنان؟!

قال بشير: بلى.

قال واصل: فلمَ فرقت بينهما؟

وردّ بشير: لأن لعيسى روحين اثنتين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرت من أحوال الناس!

- روحان اثنتان في جسد واحد؟!

قال بشير: نعم.

قال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف مكان الضعيفة؟

قاتلك الله! تعلم أو لا تعلم.. ماذا تريد؟

أريد إنْ كانت تعلم، فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشري وآفاته؟! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره في جسد؟! فسكت بشير محتارًا!!

واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدّستم الصليب؟!

قال بشير: هذه من تلك.. ماذا تريد؟

وأجاب واصل: إن كان بسخطه فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما سأل، وإلا فبالله كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟!

قال بشير: أراك رجلا قد تعلمت الكلام فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه، وأمر باستدعاء رجل من علماء القسس ليجادل هذا «الشيطان».

فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربي له رأي وعقل وأصل في قومه، وأحب أن يدخل ديننا. فأقبل القس على واصل يحتفي به ويمتدحه، ثم قال: غدا أغمسك في المعمودية غمسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك!

قال واصل: فما هذه المعمودية؟!

- ماء مقدس.

- من قدّسه؟!

- أنا والأساقفة من قبلي.

- فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرأون من النقص؟

- كلنا فعلنا الخطايا، وليس هناك مبرأ إلا يسوع.

- فكيف يقدّس الماء من لم يقدس نفسه؟!

وهنا اضطرب القس وحار ثم استدرك: إنها سنّة عيسى بن مريم غطسه يوحنا بالأردن ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!

فقال واصل: أو احتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا إذن يوحنا فهو خير لكم من عيسى.

فسكت القس واغتاظ بشير وامتلأ صدره على هذا القس، فصاح به كالمهووس: قم! دعوتك لتنصّره (تجعله نصرانيا) فإذا أنت قد أسلمت!

وانتشر خبر الأسير الفقيه، ومحاوراته الطريفة بسرعة فائقة حتى بلغ الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذي بلغني عنك من انتقاصك لديني ووقيعتك فيه؟

قال واصل: إني لم أجد بدا من الدفاع عن ديني.

فتدخل كبير البطارقة محاولا بوقاره وهيمنته الروحية أن ينهي هذا الأمر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتة: هل للحبْر الأعظم من زوجة وولد؟

وعرف الملك على الفور مثار التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد!

فقال واصل برباطة جأش ويقين فياض: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا، وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن.. عجبا! تعبدون عيسى لأنه لا أب له، فلمَ لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان، أو عبدتموه لأنه أحيا الموتى؟ فعندكم في الإنجيل أن «حزقيل» مر بميت فأحياه

وتكلم معه، فضموه كذلك إلى شركة الآلهة! أو أنكم عبدتموه لأنه أراكم المعجزات؟

فهذا «يوشع» رد الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه لأنه عرج في السموات؟ فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو أنكم... فقاطعه البطريق: اخسأ يا شيطان.. هذا التجديف أحلّ بك القتل!

فقال واصل: إني أسير.. وثم ورائي منْ إذا بلغه خبري لم يمنعه مسلككم معي من أن يثأر لي.

أيها الملك: سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التي في كنائسكم هل تجدون لها في الإنجيل مبررا؟ فإن كانت في الإنجيل فلا كلام لنا، وإلا فما أشبهكم بالوثنيين.

قال الملك: وقد أخذته دهشة وانجلت عن بصره غشاوة: صدقت، قد يعقل ما تقول!

وفي هذه الأثناء استشاط القس وامتلأ غضبا، فقال في حالة هستيرية: هذا شيطان من شياطين العرب، أخرجوه من حيث جاء، لا تقطر من دمه قطرة في بلادنا فتفسد علينا ديننا!

وعاد «واصل» ومن معه من الأسرى، وقد بدّلوا انكسارهم بانتصار.

دين الحجة والتسامح

ومن الأمارات الدالة على أن الإسلام وحده دين الحق والبرهان والخلود، جمعه البيّن بين فضيلتي قوة الحجة والمنطق، واحترام العقل والنظر، وبين خلق التسامح والحفاوة بالرأي الآخر، ووجهة النظر المغايرة، ويكفي الإسلام فخرا وسموا في هذ الخصوص أنه خلّد الرأي الآخر في محاورات أنبياء الله الكرام مع بعض أقوامهم من المشركين والكافرين والزائغين، وجعل ذلك الرأي قرآنا، وذكرا يتلى عبر كل العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومما لاشك فيه أن التسامح عند المسلمين لم يقتصر على الجدال العقائدي والفكري والفلسفي، لما يؤمن به الآخرون من أهل الأديان، والمذاهب واتساع الصدر لمناقشة هؤلاء الأتباع في رؤية متزنة، وخلق عالٍ ومنهجية نادرة فحسب، وإنما نجد أن الأمر تجاوز هذه الحدود إلى واقع المجتمع الإسلامي ذاته، وإلى نطاق مختلف الآفاق التي يسمح بها التشريع الإسلامي في التعامل مع أهل الذمة، وتقرير حقوقهم وإنسانيتهم.

فمن مظاهر التسامح الإسلامي أن العرب والمسلمين كانوا إزاء نصارى الأندلس يسمحون لأساقفتهم بعقد مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر إشبيلية النصراني الذي عقد سنة 782م (أي بعد واحد وسبعين عاما من الفتح الإسلامي)، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد سنة 852م.

ومن الكنائس القبطية المشهورة التي بنيت في العصر الإسلامي كنيسة «مارجرس» بحلوان وكنيسة «أبي مينا» وغيرهما كثير.

وفي هذا السياق دائما يروي التاريخ أيضا أنه لما غزا التتار بلاد الإسلام، ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين ودان ملوكهم (التتار) بالإسلام خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى فاستجاب الأمير التتري، ففك أسرى المسلمين وأبى أن يسمح بفك أسرى النصارى، فقال له شيخ الإسلام: لابد من فك الأسرى من اليهود والنصارى لأنهم أهل ذمتنا.. فأطلقهم له.

135613919352

محمد الفاتح حمدي :

يعتبر الدين الإسلامي من أكثر الديانات انتشارًا في العالم، وإقبالًا عليه من قبل المعتنقين له، ويعتبر هذا الدين الوحيد الذي جمع بين ما هو مادي وروحي في الوقت نفسه من خلال ما جاء به القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة، يقول عز وجل في محكم تنزيله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (فصلت: 9).

الملاحظ على المجتمعات الغربية أنها رغم ما وصلت إليه من تقدم وازدهار في الجانب المادي فإنها مازالت بعيدة في جانبها الروحي و المعنوي، الذي أهملته في بناء حضارتها الجديدة والقديمة، وهذا ما يجعلها مهددة بالانهيار والزوال مع مرور الأيام، مثلما وقع مع العديد من الإمبراطوريات التي صنعت لنفسها مكانة في الماضي، مثل الحضارة الرومانية، والتي شهد لها التاريخ بالتفوق والسيطرة على العالم، ولكن في وقتنا الحاضر لم يبق منها سوى الاسم فقط.

فإذا كانت الحضارات الغربية أساس بنائها مادي بحت فإن الحضارات الإسلامية كان عمادها وأساسها مبنيين على شقين: الروحي والذي كان مصدره الإسلام، والشق الثاني أساسه المادة والوسيلة، وهذا ما جاء به سيد الخلق أجمعين   "صلى الله عليه وسلم"   في رسالته المحمدية التي كانت موجهة إلى جميع سكان هذه القرية العالمية دون تمييز، وما يميز هذه الرسالة الإسلامية أنها جمعت بين الجانب الروحي والمادي في الوقت نفسه، فهي رسالة فريدة في معانيها ومنهجها الرباني الشامل لكل المعاملات والعلاقات الإنسانية وامتدادها الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 162)، فهذه الرسالة موجهة للناس كافة دون تمييز بين ألوانهم وأشكالهم وأعراقهم، وإنما جمعت بين أفراد هذه الأمة تحت غطاء واحد اسمه الدين الإسلامي.. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا: كيف عرف الغرب الإسلام؟ 

كيف عرف الآخر (الغرب) الإسلام؟

لقد دخل الإسلام إلى أوروبا من بوابات تاريخية عدة، فكان الفتح الأندلسي أول باب يدخل منه الدين الإسلامي إلى بلاد الغرب سنة (132هـ– 424م) عن طريق الفتوحات التي كان قائدها طارق بن زياد الذي فتح الأندلس، وكان لهذا الفتح تأثير كبير في تعريف الناس بالدين الإسلامي في تلك الفترة، فدخل في الإسلام العديد من الذين استطاعوا أن يتعرفوا على ما جاء به الإسلام من قيم تدعو إلى العدل والمساواة ونبذ التمييز العنصري وتدعيم حرية الرأي، وثاني بوابة دخل منها الإسلام هي إقامة المسلمين لمملكة في شمال إيطاليا والتي دامت مائة سنة في جبال الألب غرب فرنسا، وحسب بعض الدراسات الأوروبية كان عدد المسلمين في هذه المملكة لا يتعدى80 شخصًا، ولكن رغم قلتهم فإنهم عملوا على نشر الإسلام في هذه المملكة.

كما عرف الآخر الإسلام عن طريق فتح جزيرة صقلية سنة 1212م، وظل فيها الحكم الإسلامي مدة قرنين من الزمن، وقد تلقى المسلمون معاملة حسنة من قبل أهل هذه الجزيرة إلى أن هاجمهم الجرمن، أما البوابة الثالثة فكانت من خلال موجة العثمانيين في القرن الثامن الهجري، وكان أكبر فتح قام به العثمانيون هو فتح القسطنطينية سنة 1453م من قبل السلطان الخامس محمد الفاتح، كما كان للتجار الذين كانوا يقطعون نهر الفولقا دور في نشر الإسلام في بلاد الغرب.

والبوابة الرابعة كانت من خلال الاستعمار الحديث ودخوله للعديد من البلدان العربية والإسلامية(1)، ومن خلال هذه الحملات تعرف الآخر على ما جاء به الدين الإسلامي من قيم ومعان تدعو إلى التسامح والتعارف والمحبة والمودة: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }(الحجرات: 13). فإذا كان الغرب قد عرف الإسلام من بوابات عدة وفي فترات مختلفة وبآليات متنوعة، فإن الغرب مازال إلى وقتنا الحاضر معرضًا عن الدين الإسلامي، ورغم الجهود الدعوية التي بذلت فإنها فشلت في إبلاغ الآخر رسالة الدين الإسلامي، وإيضاح حقيقة ما جاء به من أفكار ومبادئ وقيم تدعو في مجملها إلى نبذ العنف والعدوان، كما أن الآخر لم تسمح له الفرصة المواتية من أجل الاطلاع على المنهج الرباني المستقيم، ولهذا قد نتساءل مرة أخرى: ما هي رسالة المسلم في المجتمع الغربي؟

فهذه المجتمعات بلغت من الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا الحديثة حدا لم يبلغه مجتمع من المجتمعات الإنسانية، سواء في الحاضر أو في الماضي القريب والبعيد، وفي مقابل ذلك نجد أن رسالة المسلم رسالة عقدية اجتماعية, لأن الأزمة الاجتماعية في هذه المجتمعات بلغت حدًّا أصبحت تهدده بالدمار الكامل، وستنتهي به إن استمرت إلى ما انتهى إليه المجتمع الروماني من قبل، فالصيحات تتوالى من علماء الاجتماع والنفس ورجال الدين ودوائر الأمن ومؤسسات الإصلاح الاجتماعي، معترفة بالفشل، منذرة بسوء المصير، والإنسان غريب حائر مرعوب يفترسه الخوف والضياع والانحلال، ويكفي أن نقدم ما كتبه باحث أميركي حيث قال: «إن أميركا مفككة إلى حد لا يطاق، ونحن في أمس الحاجة إلى الإحساس بالحياة الاجتماعية، ومن السهل أن نفهم أميركا الضائعة الأرواح حيث لا يرتبط الفرد بشيء، فهو يبحث عن هويته، يبحث في العمل وفي المهنة وفي التقدم الاقتصادي عن علامة تميزه وتخبره من هو» (2). 

وهذه الأزمات التي تجتاح المجتمعات الغربية تحتاج إلى نوع من الإنسان يقوم وجوده أصلًا على حمل رسالة الإصلاح في العالم كله، بشكل يشغله عن أي هدف آخر في الدنيا، فالقرآن الكريم يقرر أن المسلمين أخرجوا للناس كافة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، والقوم الذين يقصرون في هذا الواجب يستبدلهم الله بقوم آخرين لا يكونون مثلهم، فالرسول   "صلى الله عليه وسلم"   يقرر أن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أبرهم بعياله، وهو ينذر المسلمين في أحاديث كثيرة بأن بقاءهم مرهون بحملهم لرسالة الإصلاح، فإن تقاعسوا لم يستجب الله لهم إذا دعوه، ولم ينصرهم إذا استنصروه، ولم يعطهم إذا سألوه، وإذا كانت رسالة الإسلام بدأت في غار حراء، فإن رسالة المسلم ومسؤوليته لن تتوقف حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد، ويكون الدين كله لله.

إذا كانت رسالة المسلم هي تبليغ هذه الرسالة المحمدية إلى جميع أقطار المعمورة، فقد وفق العديد من الدعاة في حمل مشعل الدعوة الإسلامية خارج البقاع العربية نحو المجتمعات الغربية، وخير قدوة الرسول الكريم   "صلى الله عليه وسلم"   الذي وهب حياته وماله ونفسه وكل ما يملك في حياته من أجل نصرة الدين الإسلامي ورفع كلمة الله عز وجل لتكون هي العليا وكلمة المنافقين هي السفلى، كما كان   "صلى الله عليه وسلم"   مؤسس جيل من الدعاة كانوا جديرين بحمل مشعل الدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية، ولكن ما نلاحظه اليوم في الواقع هو فشل وتراجع لدور دعاتنا في تبليغ هذه الرسالة التي منهجها القرآن والسنة النبوية الشريفة، كما أنهم فشلوا في عرض هذه الرسالة على المجتمع الغربي، وعلى ذلك فسؤالنا هذه المرة: كيف نوفق في عرض الإسلام في المجتمعات الغربية؟ وما هو المنهج الأصلح والأنسب لذلك؟

أسباب فشل المسلمين في تبليغ الغرب الدين الإسلامي

إن فشل المسلمين في إيصال وتبليغ الغرب وتعريفه بالدين الإسلامي يرجع إلى أمور عدة، وأسباب ترسخت في نفوس و عقول دعاتنا، فلم يستطيعوا التخلص من الخرافات والأساطير التي أصبحت تؤرق حياتهم، وجعلتهم عاجزين عن التقدم خطوة نحو دعوة الآخر للدخول في الإسلام، إلا من رحم ربي، فإذا كان المسلم ما زال مصابًا بداء اتهام الاستعمار بأنه سبب فشلنا وتخلفنا عن الركب الحضاري وعن مسايرة عصر المعلومات والتكنولوجيا الحديثة.. فهذا خطأ ولابد من إزاحته من أذهاننا، وأول من يجب اتهامه وتحمليه مسؤولية تخلفنا هي أنفسنا، فإذا كنا اليوم أمة إسلامية وعربية غير متحدة في علاقاتها الخارجية والداخلية، فكيف ننجح في كسب الآخر ودعوته إلى الدخول في دين الإسلام؟ وخير مثال يصف لنا حالتنا الواقعية ما يحدث لإخوتنا في غزة بين البارحة واليوم، مئات القتلى من الأطفال والنساء والشباب، بين مساء يوم وصبيحة يوم تال أطفال ونساء يعانون الجوع والمرض والفقر تحت حصار مدفعيات اليهود أعداء الله! إنه من العار علينا ومن الخزي على أمة إسلامية غنية كل هذا الغنى أن يترك إخواننا في غزة يأكلون علف الحيوانات! وهذا خير دليل على الفرقة التي يعاني منها المسلمون والعرب في أمة واحدة دينها الإسلام ولغتها العربية لغة القرآن، أبهذه الطريقة نثبت للآخر أننا أمة إسلامية متماسكة ومتحدة؟!

دعوة الآخر

من أجل دعوة الآخر إلى الدخول في الإسلام لابد من التجرد الكامل من الهوى وعدم تدخل الغايات والأهداف ذات المصلحة الشخصية، لأن هناك العديد من دعاتنا جعلوا من الدعوة طريقا من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف وأغراض دنيوية، كالتجارة والدراسة وكسب المال، ونسوا رسالتهم التي ذهبوا من أجلها إلى الغرب، وصدق الإمام أبوحامد الغزالي حين قال: «طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله»، وكمثال للدعاة المخلصين في هذا العصر أذكر ذلك الداعية المتواضع الذي ترك الطب والدراجات العليا في العلم وفي كسب المال والثروات وفضل أن يكون مع أطفال أدغال إفريقيا، والذي أسلم على يديه أكثر من ثمانية مليون شخص، إنه الداعية الطبيب عبدالرحمن السميط.

ثم تأتي الموازنة بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي للإسلام، فالإسلام ليس عرضًا نظريًّا، بل هو سلوك عملي في حياة المسلمين، ولهذا يجب على دعاتنا أن يعيشوا الإسلام في حياتهم وسلوكاتهم قبل دعوة الغرب إليه مع الحذر من الذوبان في ثقافة الآخر.

أما المبدأ الثالث، فيتمثل في التواضع والشفقة على الآخرين؛ لأن المطلوب من دعاة هذا العصر أن يكونوا أحسن خلف لصحابتنا رضوان الله عليهم، وأن يجعلوا التواضع سمة لهم أثناء دعوتهم للآخرين، وأن يهتموا بأوضاعهم وشؤونهم الحياتية؛ لأن إعطاء قدر من الاهتمام للآخر يجعله يتخذك قدوة في حياته.

وكذلك يجب التركيز على الأصالة والتميز، لأن من الأمور التي يجب أن يحتاط منها الدعاة في بلاد الغرب الحذر من جعل الإسلام انتماء عرقيّا، لأن هذه السمة تعد عائقا في كسب الآخر ودعوته للإسلام، ولهذا يجب علينا في بلاد الغرب أن نجعل من بيوت الله أماكن توحد الجاليات المسلمة، وتجمع الطوائف والأقليات المختلفة تحت مظلة واحدة هي مظلة الإسلام، لأن الطائفية تزرع في مخيلة الآخر صورة سلبية عن الإسلام، كما يجب أن نحذر من التقاليد المحيطة التي تتعارض مع روح الإسلام في الأخلاق والأعمال و الممارسات الإدارية والعلاقات مع أفراد المجتمع.

أما المبدأ الخامس، فيتمثل في اجتهاد الدعاة في إدخال مفاهيم ومصطلحات جديدة إسلامية إلى المجتمع الغربي في وسائله الإعلامية، ولهذا يجب أن نعد العدة من أجل جعل وسائلنا الإعلامية تعطي صورة مشرقة عن الإسلام والمسلمين، واستغلال اللقاءات الشخصية، وعمل الجمعيات الخيرية واتحاد الطلبة وترجمة المعاني الإسلامية إلى اللغات الأجنبية، كما تلعب هذه الوسائل دورا رئيسيا في نقل المؤتمرات واللقاءات إلى الآخر، ورغم تعدد الوسائل المستخدمة في الدعوة الإسلامية فإن الهدف واحد وهو الدعوة إلى الإسلام بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في حوارنا مع الآخر، وهذا ما جاء في محكم التنزيل، يقول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125).

إن التزام دعاتنا بهذه المبادئ في دعوة الآخرين إلى معرفة دين الحق، يجعلهم يتقربون من هذا الدين خطوة خطوة، ويجعلهم مقبلين عليه عندما يدركون أنه منقذهم من الهلاك والضياع والانتحار والجريمة، ويوفر لهم الراحة النفسية والطمأنينة التي مازالوا يبحثون عنها إلى يومنا هذا، فوجدوها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العطرة، إنه القرآن الكريم.. المنهج والمسلك المستقيم الذي يجب أن نسير عليه حتى نلقى الله عز وجل.

الهوامش:

1- انظر أحمد عيساوي، محاضرات علمية في الدعوة الإسلامية، الجزائر: جامعة باتنة، كلية الشريعة، 2008_2007، بتصرف.

2- ماجد عرسان الكيلاني، رسالة المسلم في المجتمع الأميركي، كتاب الأمة، عدد 28، الدوحة،1991، ص: 128.

book5 opt2252

السنوسي محمد:

قضــــية الــــتراث ومـــا يتصل بها - تعريفا وقراءة وإحياء ومقارنة - هي من القضايا التي أخذت حيزا كبيرا من حياتنا الفكرية المعاصرة، والتي يتحدد بناء عليها موقفنا من قضايا عدة، تتفرع عنها وتتصل بها.

وهي - إضافة لذلك - من القضايا التي ثار حولها لغط كثير؛ إذ إن طرح النقاش أو الجدال حول قضية التراث قد جاء في سياق «المواجهة الحضارية الشاملة، التي جاءت بها أوروبا إلى بلادنا حاملة معها نواتج نهضتها، ووسائل تقدمها.. وأصبحت القضية المطروحة على العقل المسلم بإلحاح: كيف نواجه التحدي ونواكب العصر؟ هل نعوض مركب النقص، ونعالج هذه الأزمة النفسية، ونردم فجوة التخلف، بتبني الثقافة والتقنية الغربية» (1).

وتنبع أهمية «التراث» من كونه «الهوية الثقافية للأمة، والتي من دونها تضمحل وتتفكك داخليا، وقد تندمج ثقافيا في أحد التيارات الحضارية والثقافية العالمية القوية» (2).

وهذه الأهمية للتراث لا تقتصر على ما يتصل بالأمة الإسلامية، بل هي «قانون حضاري» يشمل كل الأمم، فلكل أمة تراثها الذي يشكل دورا محوريا في تكوين هويتها، إذ «لا هوية للذات بغير الاستناد إلى تراثها» (3). ولذا فإن «الشعوب لا تستعيد في وعيها - ولا يمكن أن تستعيد - إلا تراثها، أو ما يتصل به، أما الجانب الإنساني العام في التراث البشري كله، فهي تعيشه داخل تراثها لا خارجه» (4).

مفهوم التراث

تشير مادة «التراث» لغويا إلى ما يورث عن الآباء من مال أو جاه (5)، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى المال الموروث، في قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا } (الفجر: 19) (6). أما مصطلح «التراث» في الاستخدام الفكري فقد اختلف فيه اختلافا كبيرا؛ لأنه لم يكن معروفا لدى المسلمين على النحو المستخدم به حديثا، إنما هو مصطلح وافد من البيئة الغربية، ومحمل بدلالات خاصة بتلك البيئة، ومن ثم نشأ الاختلاف حوله حينما وضع في البيئة الفكرية الإسلامية.

و«التراث» بصفة عامة يمكن تعريفه من «زاويتين: تراث السلوك والعادات والقيم غير المكتوبة؛ وتراث الإبداعات الفكرية والفنية والأدبية، المكتوبة أو المسجلة والمرئية المحفوظة» (7).

أما التراث داخل الخطاب النهضوي العربي الحديث والمعاصر، فيقصد به بصورة أساسية: «الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلامية: العقيدة، والشريعة، واللغة، والأدب، والفن، والكلام، والفلسفة، والتصوف» (8).

الثراث والأصالة.. والمعاصرة

قد يستخدم مرادفا لمصطلح «التراث» مصطلح «الأصالة»؛ ويقصد به: «وضوح الهوية، وتتبع أصولها الحضارية، وهذا يتأتى عن طريق تمثل تراث الأمة» (9).

أما المصطلح المقابل لـ«التراث» في الاستخدام الفكري فهو مصطلح «المعاصرة»؛ وهو يعني: «العيش في خضم العصر، والتفاعل مع العالم المحيط» (10).

ويلفت الأستاذ عمر عبيد حسنة النظر إلى خطأ من يطرحون مفهوم «التراث» أو «الأصالة» في مقابل مفهوم «المعاصرة»، متصورين أنه يلزم الأخذ بأحدهما فقط؛ لأن «الحقيقة البادهة: أن لا معاصرة دون أصالة، ولا أصالة صادقة دون معاصرة فاعلة» (11).

ثم يتساءل: هل المواكبة للعصر، وقبول التحدي يفقدنا الهوية، ويؤدي لضياع الذات؟ أم أن الأساس الصحيح، والتجربة التاريخية (الأصالة) تعطينا نوع أمن، وتجعلنا قادرين على النزول إلى الساحة استجابة لخطاب التكليف، وتسلحنا بالمقاييس الصحيحة للقبول والرفض، والقدرة الهاضمة للثقافات والمنجزات الحضارية، دون الذوبان أو الخوف؟! (12).

التراث.. والقرآن والسنة

إذا كانت الأمة الإسلامية قد انبعثت في الوجود مع نزول القرآن الكريم، وإذا كانت علومها المختلفة قد ولدت من رحم هذا الكتاب المحفوظ من التبديل والتغيير، حينما تفاعلت الأمة مع كتاب ربها - فهما واستنباطا وتطبيقا - حتى نشأت وتألقت عشرات العلوم والمعارف، لاسيما حين نشطت حركة التدوين في منتصف القرن الثاني الهجري حتى القرن الرابع.. فإن هذه النشأة وهذا التفاعل كانا سببا رئيسيا في حدوث الاختلاف حول مفهوم «التراث» ومضامينه، وهو الاختلاف الذي يتبلور في السؤال التالي:

هل يدخل القرآن الكريم والسنة النبوية في إطار التراث مع بقية العلوم الأخرى، أم نستثنيهما لأنهما يتصلان بالوحي المعصوم، غير خاضعين للفعل الإنساني؟

• الرأي الأول ذهب أنصاره إلى أن «التراث الإسلامي» هو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وصناعات وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، ومن ثم فهو يشتمل على الوحي الإلهي (القرآن والسنة). وإن كان أنصار هذا الرأي يفرقون في النظرة والتعامل بين الوحي، فهو لا يقبل الانتقاء والاختيار منه، ولا محاولة تطويعه للواقع، وبين المنجزات البشرية الحضارية والثقافية، فهي قابلة للانتخاب والتوظيف، وفق الرؤية المعاصرة، وحسب الحاجة والمصلحة (13).

ويرى هؤلاء أن القول بالفصل بين القرآن والسنة باعتبارهما وحيا إلهيا، وبين النتاج الثقافي والحضاري في التراث، قد يكون الغرض منه أن يتم «الانتقاء والنقد بحرية دون المساس بالعقيدة الدينية». ولذا فهم يؤكدون أن هذا القول «يبعد عن واقع المشكلة الحقيقية؛ لأن الفصل غير ممكن عمليا، ولأن النقد يمكن أن يتعرض للعقيدة والشريعة من خلال نقد قيم التراث المستمدة من الوحي الإلهي» (14).

• أما الرأي الثاني فيذهب القائلون به إلى عدم دمج الوحي بالتراث، ويرونه مفارقا له؛ لأن التراث في اعتقادهم «إنجاز إنساني خالص، أو مبدعات إنسانية يكون الإنسان فيها هو الصانع، وهو المورث للآتي بعده. بتعبير آخر: لا تراث إلا ما هو عرضي إنساني زماني، ولا مورث إلا ويكون عرضيا إنسانيا زمانيا. وهذا يعني أنه لا مدخل ذاتي للأمور الإلهية في دائرة التراث» (15).

فالتراث حسب رأيهم يشتمل في نهاية التحليل على ثلاثة عناصر: العلوم، والمصنوعات، والقيم. وهم يقصدون - من تحديد التراث على هذا النحو - توضيح أن العلاقة بين «التراث» و«لمقدس» علاقة مصطنعة تماما، نشأت من توهم دخول القرآن والسنة في التراث باعتبار أنهما - بحسب هذا التوهم - من العناصر المكونة للتراث، مما أضفى على التراث طابع «المقدس».

ولذا فهم يؤكدون أن توهم دخول القرآن والسنة في التراث هو مجرد وهم؛ لأن القرآن ليس هو علوم القرآن، ولأن علم أصول الدين أو الفقه أو أصول الفقه ليست هي الدين نفسه، فهذه العلوم جميعا هي «كلام» تاريخي على الدين، وعلى الوحي. وهي بهذا الاعتبار تاريخية إنسانية، أما الوحي نفسه فهو الإلهي، وهو المجاوز للتاريخ. تلك العلوم تراث أما الوحي فليس بتراث (16).

• ويمكن أن أعقب بالقول: إن الخلاف بين هذين الرأيين ليس ذا بال؛ لأنهما يتفقان على أن منهج التعامل مع الوحي يختلف اختلافا جذريا عن التعامل مع غيره، سواء أدخلنا القرآن والسنة تحت مظلة «التراث»، أم أخرجناهما منها.

وبالتالي، يمكن أن نعد هذا الخلاف من باب التأكيد والتنبيه على حقيقة الفروق بين الوحي من ناحية، والذي هو متجاوز للزمان والمكان، ويجب له التسليم والخضوع، وبين المنجزات البشرية حوله من ناحية أخرى، والتي هي متأثرة بزمانها ومكانها، ونقبل منها بقدر ما تقترب من الوحي، أما ما خالف الوحي فمردود على قائله.

ولذا صح عن الشافعي  "رضي الله عنه"  قوله، الذي صار بمثابة قاعدة لميزان التراث وغربلته: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، وفي رواية: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث، فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط».

التراث.. والقراءة المزورة

بالإضافة لهذين الرأيين السابقين حول موضع القرآن الكريم والسنة النبوية من مفهوم «التراث» ومضامينه، فإن هناك قراءة مزورة للعلاقة بينهما، تلقي بظلال قاتمة على مفهوم «التراث».

وهي قراءة المستشرقين، ومن دار في فلكهم، الذين يجمعون في سياق واحد بين القرآن والسنة، وبين العطاء البشري المستمد منهما، لا بقصد التأكيد على «ربانية» ونقاء التراث الإسلامي، أي رفع التراث البشري قريبا من المصدر الإلهي، بل بقصد أنسنة الوحي الإلهي، وإخضاعه للمناهج والأدوات التي يتم التعامل بها مع النصوص الأدبية والفكرية، أي إنزال الوحي من مرتبته العليا السامية إلى مستوى العقول البشرية القاصرة، التي لا تسلم من غبش في الرؤية، وتخليط في المنهج، وزيغ في القصد.

هكذا تعامل الغربيون مع تراثهم الديني: التوارة والإنجيل، وقد يكونون معذورين في ذلك، بسبب ما دخل على هذه المصادر من تحريف، وما ظهر فيها من تناقض؛ لأنها دونت بعد انقطاع زمني كبير من عهد أنبيائها، ولم تخضع عند جمعها وتدوينها لمثل ما التزم به جامعو السنة النبوية من تدقيق وتمحيص.

وهكذا يراد لتراثنا أن يتم التعامل معه، نقدا وقبولا ورفضا، دون أي اعتبار للوحي المحفوظ من التحريف والتبديل، المنزه عن التناقض والاختلاف.

فعلى سبيل المثال، يقدم صاحب «التراث والتجديد» رؤية زائفة للتعامل مع التراث، تحتفظ له بأهميته ومصطلحاته من حيث الشكل، لكن تفرغه من مضمونه ومحتواه؛ حتى لتزعم أن «الله: لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي إنه تعبير أدبي، أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي، أكثر منه وصفا خبريا» (17)!

وتهدف تلك المحاولة الزائفة إلى «التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة، سواء كانت الموروث، أو سلطة المنقول» (18).

ويعقب د. عمارة على هذا التخريب لتراثنا، قائلا: هنا تطالعنا «آلهة التنوير الغربي» لتحل محل الموروث - كل الموروث - فلا سلطان إلا للعقل والمادة، وهي محاولات تسير على درب التنويريين الغربيين الذين «أنسنوا» كل الإلهيات، بحيث يتم التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة، من مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، «في علم أصول الدين؛ لأنها قطعية.. ولأنها تجاوز الحس والمشاهدة»؛ فكل ما يجاوز الحس والمشاهدة، وكل ما لا يتأنسن، يجب تأويله بل والتخلي عنه وإلغاؤه (19).

نحو قراءة صحيحة

في مقابل ما يمكن أن نسميه القراءة الجامدة للتراث والقراءة المزورة له، تبدو الحاجة ماسة إلى قراءة أخرى صحيحة منصفة له، بحيث:

• تدرك أولا أن للوحي - قرآنا وسنة - دورا محوريا أساسيا في تكوين تراثنا العريض الممتد، وفي تشكيل عقلنا ونموذجنا المعرفي.

• وتفهم ثانيا أن هذا «الوحي» ليس على مستوى واحد، فمنه ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وهذا النوع من النصوص قليل جدا بالنسبة إلى سائر النصوص، ولا مجال فيه للاجتهاد. كما أن منه ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة، وظني الثبوت، قطعي الدلالة، وظني الثبوت والدلالة، وهذا فيه مجال للاجتهاد المنضبط بآليات فهم النص القرآني والنبوي. إضافة إلى ذلك، توجد وقائع لم ترد فيها نصوص، ويسميها د. القرضاوي بـ «منطقة الفراغ التشريعي»، وهي المنطقة التي تركتها النصوص- قصدا - لاجتهاد أولي الأمر والرأي، وأهل الحل والعقد في الأمة، بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي (20).

• وتستوعب ثالثا أن العلماء قد أوسعوا «منطقة الفراغ التشريعي» - وغيرها مما هو محل للاجتهاد - تنظيرا وتقعيدا ودرسا، ومن غير المعقول أن نرمي وراء ظهورنا جهودهم التي تراكمت عبر قرون متطاولة! لاسيما وأن أحدا لم يزعم العصمة أو القداسة لعالم أو مفكر، فلا عصمة إلا لرسل الله وأنبيائه عليهم جميعا الصلاة والسلام.

• وتعي رابعا أن «التراث» و«المعاصرة» هما وجهان للنهضة الراشدة، لا غناء بأحدهما عن الآخر.

وتبقى الأمانة معلقة برقابنا تستحثنا على مواصلة طريق الاجتهاد والإبداع، مستفيدين من تلك الثروة والآليات والمناهج، مطورين لها، مشدودين دائما إلى النص القرآني والنبوي ومقاصدهما، غير متجاوزين للثوابت والقطعيات، وغير مسفهين لمن سبقونا على الدرب، وغير منقطعين عن الاستفادة مما عند غيرنا في إطار رؤيتنا وثوابتنا.

حينئذ نكون قد أحسنا قراءة «التراث» قراءة صحيحة، وأدينا حقه وأمانته عندنا، وقمنا بواجبنا كما ينبغي نحو واقعنا المعاصر وتحدياته.

الهوامش :

(1) من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب: «التراث والمعاصرة»، د. أكرم ضياء العمري، ص: 8، 9، سلسلة «كتاب الأمة»، العدد رقم 67، ط1، 1405هـ، قطر.

(2) د. أكرم ضياء العمري، «التراث والمعاصرة»، ص: 35.

(3) د. طه عبدالرحمن، «سؤال المنهج»، ص: 59، ط1، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت.

(4) د. محمد عابد الجابري، «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»، ص: 52، 53، المركز الثقافي العربي، ط4، 1985م، الدار البيضاء.

(5) راجع «المعجم الوسيط»، ص: 1066، 1067، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط4، 2008م، مكتبة الشروق الدولية.

(6) جاء في «التحرير والتنوير» لابن عاشور: «والتراث: المال الموروث، أي: الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه».

(7) سامي خشبة، «مصطلحات فكرية»، ص: 66، طبعة مكتبة الأسرة 1997م.

(8) د. محمد عابد الجابري، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات»، ص: 30، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1991م، بيروت.

(9) د. أحمد صدقي الدجاني، «فكر وفعل»، ص: 122، دار المستقبل العربي، ط1، 1985م.

(10) المصدر نفسه، ص: 122.

(11) من تقديمه لكتاب: «التراث والمعاصرة»، د. العمري، ص: 13.

(12) المصدر نفسه، ص: 13، 14.

(13) د. أكرم ضياء العمري، «التراث والمعاصرة»، ص: 27، 28، باختصار يسير.

(14) المصدر نفسه، ص: 24.

(15) د. فهمي جدعان، «نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى»، ص: 17، دار الشروق، ط1، 1985، عمان، الأردن. باختصار يسير.

(16) المصدر نفسه، ص: 17- 19، باختصار وتصرف يسير

(17) د. حسن حنفي، «التراث والتجديد»، ص: 113، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4، 1992، بيروت.

(18) المصدر نفسه، ص: 52.

(19) د. محمد عمارة، «الإسلام بين التنوير والتزوير»، ص: 190، 191، دار الشروق، ط1، 1995م. باختصار وتصرف يسير.

(20) د. يوسف القرضاوي، «الخصائص العامة للإسلام»، ص: 223، مكتبة وهبة، 1989. باختصار وتصرف.

11 18 2014 9 48 49 AM

عبدالعلي الوالي:

إن الباحث في علاقة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  مع أهل النفاق، ليلفيه حكيما، وطبيبا، يتقن كيفية التعامل مع الداء، وإنتاج الدواء المناسب له، حيث كان  " صلى الله عليه وسلم"  يعاملهم بأساليب مختلفة، تتفق مع أفعالهم، ومدى خطورتها على الدعوة الإسلامية، وخطورتها على المسلمين، إذ كان همه الأكبر صلوات ربي وسلامه عليه هو الحفاظ على أمن واستقرار الدولة الإسلامية الناشئة، وإليك أخي القارئ الفاضل لمحة عن أساليب معاملة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  للمنافقين:

أولا: أسلوب الصبر وعدم الإرغام على الفعل

رغم أن بعض المنافقين كانوا يعاملون النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بسوء أدب، وكانوا يظهرون له أحيانا بغضهم له، ولدعوته، ويرفضون تقديم أي خدمة في سبيل الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، فإننا وجدناه  " صلى الله عليه وسلم"  يصبر على سوء معاملتهم، ولا يجبرهم على تقديم العون المادي والمعنوي للمسلمين، وإذا تتبعنا السيرة النبوية فسنقف على مشاهد كثيرة لذلك، أكتفي بعون الله تعالى بواحد منها.

ذكر صاحب الروض الأنف أن المنافق مربع بن قيظي (1) قال للنبي  " صلى الله عليه وسلم"  حين كان عامدا لأحد: «لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا، أن تمر في حائطي»، بل أكثر من هذا، أخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: «والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به»، فهل كان جواب النبي  " صلى الله عليه وسلم"  على هذا الفعل: اقتلوه، أو: اقطعوا رأسه؟ لا، لم يكن رد الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  كذلك، وإنما قال لما ابتدره البعض ليقتله: «دعوه فهذا الأعمى، أعمى القلب، أعمى البصيرة». (2)

وبالتالي فيستفاد من هذا الخبر أمران:

الأول: الصبر على هذا المنافق، وعدم معاقبته على فعله الشنيع.

الثاني: عدم إجباره على مرور جيش النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بحائطه.

ثانيا: أسلوب الإخفاء وعدم التشهير

من الثابت أن الله تعالى أخبر النبي  " صلى الله عليه وسلم"  بأخبار المنافقين واحدا واحدا، والدليل على ذلك قول أنس في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)  وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ  وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) } (محمد:30)، قال أنس: «فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة، عرفها بتعريف الله إياه» (3) .

ومن المعروف أيضا أن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين، حتى إن عمر ناشده: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك (4).

لكن السؤال المطروح هنا هو: لماذا لم يخبر النبي  " صلى الله عليه وسلم"  عن المنافقين صحابته الكرام، وترك ذلك سرا؟

ربما إن ذلك يرجع لحكم، منها:

ـ أن الإسلام يعلمنا كيف نحكم على ظواهر الناس، ونترك سرائرهم للخالق عزوجل.

ـ أن في سترهم تحفيزا على الاجتهاد في العمل، وترك أعمالهم الدنيئة، لأن كل واحد من الصحابة يخشى على نفسه أن يكون منهم، كما عبر عن ذلك عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه"

ـ أن من كان خطر إظهار أمره أشد من خطر إخفائه، فالأولى ستره.

وهكذاـ والله تعالى أعلم - لو فضح النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أمرهم، لأدى ذلك إلى فتنة عظمى، لأن هؤلاء المنافقين كانوا ينتمون إلى قبائل مختلفة، فلو كشف النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أمرهم لعيرت كل قبيلة غيرها بمنافقيها، وربما أدى ذلك إلى نبذهم داخل المجتمع، وذلك قد يكون سببا في عدم توبتهم.

ثالثا: أسلوب الحكم على الظواهر

لقد عامل الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  المنافقين الذين كان كفرهم أشد من الكفار الصرحاء معاملة المسلمين في أحكام الدنيا، فلم يفرق بينهم وبين غيرهم من صحابته رضي الله عنهم، على رغم أن سيرتهم كانت دالة دلالة لا لبس فيها أنهم يكفرون بالله ورسوله وباليوم الآخر، ولم يكونوا مؤمنين مطلقا.

وبهذا يعلم أن من أظهر الإسلام، ودلت القرائن على كفره، لا يعامل معاملة الكفار حتى يكون كفره صريحا.

وقد كـــان بعـــــض أصــــــحاب رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يتخذون ما يبدو لهم من القرائن الدالة على خيانة بعض الأشخاص، ممن أظهروا إسلامهم، حجة على عدم إيمانهم، ويستأذنونه في قتلهم، ويصفونهم بالمنافقين، لما يظهر لهم من أن نفاقهم نفاق اعتقادي، أي إنهم كفار، وليسوا بمسلمين. فكان رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يدافع عمن عرف صدقه وإيمانه، ويقبل عذره، ويذكر ما له من فضائل، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة  "رضي الله عنه" ، الذي كشف في رسالة له سر رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  من عزمه على فتح مكة أرسلها إليهم مع امـــرأة، وكان  " صلى الله عليه وسلم"  قد أخفاه ليهاجم قريشا قبل أن يستعدوا لقتاله.

فلما كشف أمر حاطب، قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول  " صلى الله عليه وسلم" : «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» (5).

أما من دلت القرائن على نفاقه، ولم يعلم الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  صدقه، وترجح له أنه منافق فعلا، فلم يكن  " صلى الله عليه وسلم"  يدافع عنه ولا يثني عليه، ولكنه لا يقر أحدا على قتله، ويعلل ذلك بأنه قد أظهر للناس أنه من المسلمين، والإسلام يعصم دماء من أظهره وماله، فإذا أذن في قتله ظن الناس أن محمدا يقتل من آمن به (6).

قال الإمام الشافعي رحمه الله مبينا منهج النبي  " صلى الله عليه وسلم"  في حكمه على ظواهر المنافقين: «وفي سنة رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  في المنافقين دلالة على أمور، منها: لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان، ومنها أنه حقن دماءهم وقد رجعوا إلى غير يهودية، ولا نصرانية، ولا مجوسية، ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام، وأسروا الكفر، فأقرهم رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  في الظاهر على أحكام المسلمين، فناكحوا المسلمين، ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا في مساجد المسلمين» (7).

رابعا: أسلوب قبول إبداء الرأي

فيما أعلم - والله أعلم - لم يثبت عن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أنه منع أحد المنافقين من التعبير عن رأيه، وأحيانا كان  " صلى الله عليه وسلم"  يقبل آراءهم، ولو مكرها.

والدليل على ذلك قصة المنافق عبد الله بن أبي مع النبي  " صلى الله عليه وسلم"  في شأن بني قينقاع، فلما فعل بنو قينقاع ما فعلوا بالمرأة المسلمة، (8) وهددوا النبي  " صلى الله عليه وسلم" ، (9) حاصرهم  " صلى الله عليه وسلم"  خمس عشرة ليلة، حتى نزلوا على حكمه.

فتدخل المنافق عبد الله بن أبي، ليجنب مواليه العقاب، فقال: «يا محمد أحسن في موالي»، فأبطأ عليه رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" ، فقال: «يا محمد، أحسن إلى موالي»، فأعرض عنه، فأدخل يده في درع رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" ، فقال له رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «أرسلني»، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، (10)، ثم قال: «ويحك! أرسلني»، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر (11) وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤ أخشى الدوائر، فقــــال رســـول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «هم لك» (12).

فمن هذا الخبر نستفيد ما يلي:

ـ أن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  لم يرفض أن يبدي هذا المنافق رأيه، فلم يقل له مثلا: اسكت أيها المنافق، لا حق لك في الكلام.

ويؤكد هذا الأمر، أنه لما اختلف الصحابة في مسألة الخروج لقريش من عدمه في غزوة أحد، كان رأي النبي  " صلى الله عليه وسلم"  موافقا لرأي المنافق ابن أبي، وهو الإقامة بالمدينة ومقاتلتهم بها (13).

ـ أنه رفض رأيه لأنه لم يكن صوابا، وربما لو كان صوابا لقبله، والدليل على هذا الرفض، إعراضه عنه.

ـ أنه قبل رأيه أخيرا مكرها، لأنه رأى في ذلك مصلحة راجحة للدولة الإسلامية الناشئة، وهي تجنيبها الفوضى والخلاف، لأن ابن أبي المنافق كان زعيما، له أنصار، وكان نفاقه لم يظهر بعد بشكل واضح، إضافة إلى أن عددا كبيرا من اليهود لايزالون بالمدينة، ومن الممكن أن يجرؤوا على أعمال مسيئة للمسلمين.

كما أن هدف النبي  " صلى الله عليه وسلم"  الأول هو إنهاء دسائس ومكر بني قينقاع، وليس قتلهم، وحتى إن فضل قتلهم، فمن أجل إخافة القبائل الأخرى المتربصة بالدولة الإسلامية الناشئة.

خامسا: أسلوب رد إرجافهم:

من أعمال المنافقين المشينة، أنهم كانوا يشككون في انتصار الإسلام، ويحاولون دائما تثبيط همم الصحابة رضوان الله عليهم، بادعائهم أن ما يقومون به مغامرات ستكون عواقبها وخيمة عليهم.

ففي غزوة الخندق لما ضيق العدو على المسلمين، وعظم البلاء عليهم، وجد بعض المنافقين ذلك فرصة لخلق البلبلة في صفوف جيش النبي  " صلى الله عليه وسلم" ، فقال: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط» (14).

وقال آخر: «يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج من المدينة» (15).

فلما كثر الكلام، وتكلم المنافقون بكلام قبيح، تدخل النبي  " صلى الله عليه وسلم"  ليعالج إرجافهم، فقال: «والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله عز وجل مفاتح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (16).

وهكذا كان النبي  " صلى الله عليه وسلم"  يرد باطلهم، ويقوي عزائم أصحابه، حتى لا يكون لهم أثر على قلوب المؤمنين الصادقين.

سادسا: أسلوب التدرج من المسامحة إلى المواجهة:

إن أعمال المنافقين كما عرف من سيرتهم تطورت شيئا فشيئا، ففي البدايات الأولى لظهور الإسلام في المدينة المنورة، ظهرت منهم أعمال عدائية للنبي  " صلى الله عليه وسلم" ، إلا أنها كانت فردية، وكانت تظهر عبارة عن ردة فعل لواقعة ما، أو إبداء رأي في أمر ما، كما وقع في غزوة بني المصطلق حين كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فلما بلغ الخبر المنافق عبدالله بن أبي، قال: «قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» (17).

ثم ما فتئت أعمالهم أن تطورت إلى عقد اجتماعات وترتيب لقاءات، وإعداد الخطط للكيد للمسلمين، ظهر ذلك جليا أثناء الإعداد لغزوة تبوك، حيث بلغ النبي  " صلى الله عليه وسلم"  أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك.

وكذلك إن أمعنا النظر في ردود أفعال الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  في وجه المنافقين، فسنجدها تدرجت حسب أفعالهم، فلما كانت أفعالهم فردية وعابرة كان  " صلى الله عليه وسلم"  لا يوليها اهتماما كبيرا، فلما أصبحت أعمالا مخططا لها، تغير أسلوبه في التعامل معهم من الصبر والصفح إلى المواجهة، فالمنافقون الذين اجتمعوا في بيت سويلم اليهودي قصد الكيد للمسلمين، أرسل إليهم طلحة بن عبيدالله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة (18) من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا (19).

وأمر رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  أيضا بهدم مسجد الضرار وتحريقه، لأنه أنشـــئ بنيـــة تفــريق جماعة المسلمين (20).

وخلاصة القول، أن تغير معاملة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  للمنافقين من اللين إلى الشدة، ترجع إلى ما يلي:

ـ تغير طريقة المنافقين من أعمال عابرة إلى أعمال تتسم بالتخطيط والإعداد، لتقسيم الدولة الإسلامية الناشئة، أو هدمها إن أمكن.

ـ زوال المحاذير التي كانت تمنعه من مثل هذه الردود، حيث انكشف أمرهم للجميع، وظهر خبثهم لمن معهم ولمن ضدهم.

ـ محاولة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  إبلاغهم رسالة مضمونها، أن أمرهم قد انكشف.

سابعا: أسلوب الحرمان من المناصب والمسؤوليات الحساسة في الدولة.

إن المتتبع لسيرة الرسول  " صلى الله عليه وسلم"  يدرك جيدا مدى حذره  " صلى الله عليه وسلم"  من مكائد المنافقين، ومن هذا الحذر أنه لم يول أحدا من المنافقين، قال ابن تيمية رحمه الله بهذا الصدد: «والنبي  " صلى الله عليه وسلم"  لم يول على المسلمين منافقا» (21).

وفي الأخير أسأل المولى عزوجل أن يحفظ أمتنا من كيد المنافقين ومكرهم، وأن يجنبنا هذه الخصلة المذمومة التي تجعل صاحبها في أسفل سافلين، لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } (النساء:145).

الهوامش :

1- لم يزد صاحب الإصابة في ترجمته عن قوله: «والد مرارة... عد في المنافقين، ويقال: تاب». (6/ 53).

2- الروض الأنف، لابن هشام، تحقيق عمر عبدالسلام، دار إحياء التراث العربي، ط1، 4/212.

3- تفسير القرطبي، تحقيق هشام البخاري، دار عالم الكتب، ص 16/253.

4- سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، ص 2/362.

5- السيرة النبوية لابن كثير، تحقيق مصطفى عبدالواحد، دار المعرفة، ص 3/ 538.

6- سيرة ابن هشام، دار الصحابة للتراث، ط: الأولى، ص 3/287.

7- الأم للشافعي، دار المعرفة، ص1/296.

8- سيرة ابن هشام،2/457.

9- المصدر السابق،2/456.

10- الظلل: جمع ظلة، وهي السحابة، (انظر مختار الصحاح، مادة ظلل، ص:196)، والمقصود بها هنا تغير وجه رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" .

11- حاسر: لا درع عليه ولا عمامة على رأسه. (انظر: لسان العرب، فصل الحاء المهملة ، 4/187).

12- سيرة ابن هشام، 2/457.

13- المصدر السابق، 3/7.

14- المصدر السابق، 3/206.

15- المصدر السابق.

16- السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، ط:3 رقم: 17863، 9/54.

17- سيرة ابن هشام، 3/286.

18- روي أنه تاب وصلح حاله، وقيل: إن والد الضحاك هو الذي كان منافقا، والله أعلم. (انظر ترجمته في الإصابة: 3/ 384).

19- سيرة ابن هشام، 4/183.

20- المصدر السابق، 4/202ـ 203.

21- الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، دار الكتب العلمية، ط، 1-1987م، 

022012200212

محمد القاضي:

إذا كان البشر هم المادة التي يتعامل الإسلام معها، فإن مزيته هي الواقعية التي حتمت أن يهتم بالفرد الواحد أيًا كانت حالته وصفاته، سمت به الحال أو قعدت، ارتقت به مواهبه وملكاته أم أحجمت، فهو مادة صالحة لعمل الإسلام، يخاطبهم خطابًا واحدًا ويناديهم بنداء واحد غايته في ذلك تكوين جماعة فاضلة يسودها الحق والفضيلة يعمل في ظلها الأفراد من غير أن يجاوز الفرد حدوده، ومن غير أن تهمل حقوقه، ولكل مجاله الذي يمكن أن يسهم به في بناء صرح المجتمع الإسلامي الصالح، ومجتمع هذا معياره الأساسي وهذا ميزانه الذي يزن به أقدار أفراده هو مجتمع مثالي يستحق الاقتداء به، وتراث المسلمين الأوائل يشهد بأنهم سادوا وعزوا وقادوا الأمم الأخرى حين أحسنوا الانضواء تحت لواء الإسلام الحق وحين طبقوا أحكام ربهم في كل شؤون حياتهم، وليس من شك في أن خلاص المسلمين مما أصيبوا به من تخاذل وضعف إنما يكون في الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء والصالحة لكل زمان ومكان وتحمل الخير والسعادة والفوز دينا ودنيا.

إن الأمة الإسلامية تملك من عوامل البقاء أقواها وأعتاها وما يستعصي على الفناء، إنها تملك رسالة السماء، رسالة الحق والخير، رسالة الإسلام الذي وضع للحياة نظامًا دقيقًا داعيًا إلى العمل لآخر رمق في الحياة، فالعمل سر الحياة ومبعث نشاطها حتى في أحلك الظروف وأصعب الأوقات، وفي القرآن الكريم صور حية حاثة على العمل وسعيا عليه ليكون لنا هاديا ومرشدًا، يقول الرسول [: «إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها» وليس للعمل حد محدود أو نطاق معين سوى أن يكون وفق ما جاء به القرآن الكريم أو السنة النبوية بعيدًا عما نهى الله عنه خاليا من الغش، عملًا يبني ولا يهدم، يطهر ولا يدنس، يقوي قدرات الفرد، وما حققت الدول العظمى مبتغاها إلا بالالتزام بهذه المبادئ التي نحن أولى بها من مجتمعاتهم واليابان خير شاهد على ذلك، أين وصلت وأين هي الأمة الإسلامية من تقدمها وتطورها؟

إن المستقبل للإسلام، ما في ذلك شك ورجاله هم شباب اليوم، إنهم أمل الأمة الإسلامية بما فيهم من بذور طيبة، تؤمن بالعمل الجدي والمثمر، ليعودوا بالإسلام إلى عزته وقوته وحضارته، والله الهادي إلى سواء السبيل.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

تربية إبداعية لأبنائك.. كيف؟

رويدا محمد - كاتبة وباحثة تربوية: يعرف الإبداع بأنه النشاط الإنساني المختلف عن المألوف، والذي يؤدي ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال