الخميس، 18 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

55 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

هذا ديننا

0001222

القلق مرض العصر.. كيف عالجه الإسلام؟

خلف أحمد أبوزيد :

إن حياة الإنسان لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تمضي على نمط واحد، بل هي خليط من التجارب المتنوعة والانفعالات والعواطف المختلفة، فالإنسان قد يشعر بالحب حينًا، وبالكره حينًا آخر، ويشعر بالخوف والقلق تارة وبالأمن والطمأنينة وسكينة النفس تارة أخرى، ويشعر بالفرح والسرور بعض الوقت وبالحزن والكآبة في بعض الأحيان، وهكذا تمضي حياة الإنسان في تغير مستمر وتقلب دائم، ويعد القلق من الأحاسيس المؤلمة وأساس المتاعب النفسية التي يعاني منها الإنسان المعاصر، حتى أصبح خاصية عامة وعالمية، حيث إن أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، أثبت «أن 25 % من سكان العالم يشعرون بالتوتر والخوف والإحباط، وتوقع السوء، وحدوث ما يهدد حياتهم» (1)، ويعرف لنا علماء النفس القلق بأنه «انفعال يتسم بالخوف والتوجس من أشياء مرتقبة تنطوي على تهديد حقيقي أو مجهول، ويكون من المعقول أحيانًا أن نقلق للتحفز النشط ومواجهة الخطر، ولكن كثيرًا من المواقف المثيرة للقلق، لا يكون فيها الخطر حقيقيًا بل متوهمًا ومجهول المصدر» (2)، ونتعرف عبر هذه السطور على أنواع القلق وأثره على الصحة الإنسانية، ثم الوسائل التي وضعها ديننا الإسلامي، من أجل النجاة منه. 2_opt.jpeg يمكن لنا أن نقسم القلق إلى نوعين، قلق محمود، أو قلق ايجابي وهو موجود عند كل الناس، حيث إنه يمثل الحافز القوي لكل إنسان، لذا فإن البعض رفعه إلى درجة من الضرورية من أجل السعي نحو الهدف والتقدم في شتى مواقع الحياة، ولهذا النوع من القلق صور عديدة في حياتنا، نذكر منها على سبيل المثال، قلق التلميذ أثناء أداء الامتحان أو القلق الذي يصيبنا أثناء اتخاذ قرار هام، أو لقاء شخص ما، فمن خلال التوتر أو القلق الذي نظهره قبل حدوث هذه المواقف نهيئ أنفسنا لمواجهة هذه المواقف بنجاح، وأنه لو أتيح لنا أن ننجح في هذه المواقف ونتغلب على خجلنا وعوامل ضعفنا في اللقاءات الشخصية الهامة تاركين أثرًا طيبًا وايجابيًا في الآخرين، فإننا نشعر بالعرفان والشكر لمشاعر القلق السابقة لمساهمتها في دفعنا الإيجابي نحو النجاح، فإن أمثال هذه المواقف يعد نموذجًا طيبًا لما يسمى بالقلق الدافع، وهو قلق ضروري للنمو وللتطور بإمكاناتنا نحو تحقيق كثير من الغايات الإيجابية، وهو قلق مؤقت وقليل الحدة ومنشط لإمكانات الكائن النفسية والعضوية، وبعبارة أخرى فإن هذا نوع صحي ومحمود من القلق، وينطبق عليه قول العالم النفسي الأميركي «كاتل» بعد عرض كثير من نتائج بحوثه في هذا الميدان «بعض الناس يربط دائما بين القلق والمرض، ولكن القلق لا يكون دائما دليلا على المرض والعصاب، إن القلق يمكن أن يوجد بدرجة عالية دون عصاب، بل إنني أجد من نتائج دراساتي ما يؤكد أن وجود القلق قد يكون أحيانا علامة على الصحة والنضوج» (3).

أما النوع الثاني من القلق وهو ما يطلق عليه علماء النفس القلق المذموم، أو القلق المرضي وهو قلق ضار ومعطل لإمكانات الإنسان نحو النمو السليم، وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي بصورة سليمة، من حيث إنه يقيد الشخصية بأوهام الخوف والفشل اللامنطقي ويمثل سلوكًا مدمرا، يدعو للهزيمة الذاتية والاضطراب، ونذكر هنا صورًا لهذا النوع من القلق المذموم، فعلى سبيل المثال، نموذج الطالب الذي يتملكه القلق في يوم الامتحان بصورة توقفه عن أداء الامتحان ذاته والهروب من الموقف كله، أو ذلك الزوج الذي يتملكه الخوف من الضعف الجنسي عند معاشرته لزوجته، بصورة قد تؤدي إلى إصابته بالعنة الجنسية، أو تلك الأم التي تخشى على أبنائها من أخطار الحياة، لدرجة توقف نموهم وتفاعلهم الايجابي بالحياة بحب فج وحرص بالغ، وهذا الطفل الذي يوقعه خوف الانفصال عن الأسرة في التحايل على الذهاب إلى المدرسة بالمرض أو التمارض كل صباح، فكل صورة من هذه الصور السابقة، يمثل صورة مختلفة لما يمكن أن نسميه بالقلق المرضي أو العصابي، الذي يمثل الشكوى الرئيسية للغالبية العظمى من الناس.

القلق والصحة الإنسانية

ويترك القلق آثارًا ضارة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، حيث إنه يحدث تغيرات غير سارة يرى العلماء أنها نتيجة للاستثارة الشديدة التي تحدث فيما يسمى بالجهاز العصبي السميناوي (الاستشاري) وهو أحد الأجهزة الرئيسية التي تنشط في مواقف الخطر والانفعال ويؤدي نشاطها إلى التأثير في الأعضاء المتصلة به، فتجحظ العيون أو تضيق، وتعرق الأيدي أو تبرد أطرافها، وتتزايد دقات القلب وتتسارع وتنقبض الأوعية الدموية، وتستثار بعض الغدد كالغدد الدمعية في حالات الحزن، ونجد في حالات القلق أن التغيرات العضوية تمتد لتشمل تسارع دقات القلب، جفاف الفم، الدوخة، العرق الشديد، الغصة وانحباس الصوت، وأحيانا الغثيان نتيجة لانقباض المعدة والتنميل في اليدين والقدمين، وصعوبات التنفس التي تكون إما على شكل العجز عن التنفس العميق أو التنفس السريع المتلاحق، كما يحدث القلق أيضا تغيرات عضوية عضلية، لعل من أهمها تصلب عضلات الظهر والرقبة والتصلب على امتداد عضلات الذراعين حتى أسفل الكتفين، وارتعاشات الأطراف والأصابع وزيادة اللوازم الحركية في الوجه بالذات في منطقة الفم والعينين نتيجة للتوتر العضلي الشديد، في هاتين المنطقتين، ولهذا نجد أن كثيرًا من المصابين بالقلق عادة ما يشكون من توترات العضلات وآلام الظهر وتقلبات المعدة، وما يصحب ذلك من اضطرابات الهضم، كما يرتبط التعبير عن القلق بآلام الصدر وضيق التنفس، مما يجعل الشخص يشك في الأمراض القلبية بالرغم من سلامة القلب، إلا أن هناك من الأبحاث ما يؤكد على أن الأشخاص الذين يتسم سلوكهم بالقلق المستمر والشكوى عادة ما يتعرضون فيما بعد لأمراض قلبية حقيقية، وترتفع لديهم أيضا الحالات المرضية المرتبطة بارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة والبول السكري والربو واكزيما الجلد، وإذا تركنا أثر القلق على الجسد الإنساني، إلى أثره على الصحة النفسية للإنسان، نجد أنه يقود الإنسان إلى الانقباض الشديد وعدم الطمأنينة والتفكير الملح، وقد يصل الأمر إذا استفحل إلى ما يعرف بعصاب القلق، وهو يتمثل في الوسواس والخضوع لفكرة ملحة مثل فكرة الموت، أو المرض أو المخاوف المرضية أو العصاب القهري مثل غسل اليدين المبالغ فيه، وعصاب القلق مرض يعاني منه نحو 5% من أفراد المجتمع الأميركي، ونجمل أثر ما يحدثه القلق على النفس والبدن في هذه الكلمات للعالم «بيرتون» الذي يقول «كثيرة الآثار المؤلمة التي يتركها القلق على الإنسان بما في ذلك الشحوب أو احمرار البشرة والرجفة والعرق، وكثيرة آلام هؤلاء الذين يعيشون في خوف، إنهم لا يستطيعون أبدًا أن يتحرروا، أو أن يشعروا بالأمان، عزائمهم خاوية وآلامهم قاسية وحياتهم تخلو من البهجة، ولم أجد تعاسة أعظم، ولا ألمًا أطرى، ولا عذابًا أقسى من العذاب الذي يحيونه» (4).

العلاج الإسلامي للقلق

بداية نؤكد على حقيقة هامة، أن الإسلام حل أزمات الإنسان المعاصر حلا كاملا، سواءً كانت أزمات روحية أو دينية أو نفسية أو خلقية أو اجتماعية، بما يضمن سعادة الإنسان ويحقق له الطمأنينة والاستقرار على أرض الواقع، ومن هذا المنطلق يهدينا الإسلام إلى الوسائل السليمة لاتقاء القلق، ويفرش لنا أرضًا صلبة نقف عليها بثبات وطمأنينة إذا ما تدبرناه وعقلناه، ومن ناحية العلاج نجد أن الإسلام، يقدم أساليب عالية لعلاج القلق تفوق وسائل العلاج النفسي الحديث التي تمثلت في الاسترخاء، والعلاج الطبي بالأدوية المهدئة، هذا إلى جانب ألوان أخرى من العلاج، كالعلاج المهني وهو أن يشغل المريض بالعمل عن التفكير في مشكلته، أو التنويم المغناطيسي، ولا أحد ينكر أن علاج القلق بالوسائل الطبية والنفسية الحديثة، قد يجدي في بعض الحالات، وقد لا يجدي في بعضها الآخر، ذلك أن المدرسة الحديثة في الطب وعلم النفس لا تقدم حلا جذريًا للمشكلة، وإنما تقدم لنا علاجًا للأعراض، أما الأسباب فتضرب جذورها في الأعماق، ومن هنا أصبح القلق مرض العصر، إلا أن ديننا الإسلامي قد رسم المنهاج الأمثل، الذي يقينا شر الأمراض العضوية والنفسية، كما يدفع عنا الخوف والقلق، وقد حدد لنا المولى سبحانه وتعالى الخطوات الرشيدة التي تحقق لنا سبل السعادة، وتدرأ عنا أسباب القلق، ويمكن لنا أن نوجز العلاج الإسلامي للقلق فيما يلي.

1- الالتجاء إلى الله والتوكل عليه سبحانه

وأول ما يقضي على القلق، ويجلب السعادة والأمن والاطمئنان للإنسان هو الالتجاء إلى الله والتوكل عليه، قال تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق:2- 3) فالإيمان بالله الممتزج بالتقوى والعمل الصالح مع التحلي بالصبر والتواصي بالخلق الحميد والرضا بقضاء الله خيره وشره، يورث الإنسان بشاشة الروح، وحلاوة النفس، قال تعالى {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} (هود: 123) {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97) فتقوى الله والإيمان به سبحانه، مع التوكل الحقيقي عليه يزيل عن الإنسان أسباب التوتر ويدفع عنه القلق، يقول «ديل كارينجي» صاحب أكبر مجموعة من مؤلفات علم النفس عن أثر الإيمان والالتجاء إلى الله في علاج القلق «إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا هذه الأمراض» (5)، ويقول «الكسيس كاريل» الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة، حول أثر الإيمان والتوكل على الله على صحة الإنسان النفسية «إن القلق والهموم يحدثان تغيرات عضوية، وأمراضًا حقيقية، وهي تضر بالصحة ضررًا بالغًا، وإن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يقون أنفسهم من الهموم يموتون في شرخ الشباب، ثم يتطرق إلى الذين يدينون بأحد الأديان ويصفهم بالبسطاء، ويقول كأن البسطاء يمكنهم أن يحسوا الله بنفس السهولة التي يحسون بها حرارة الشمس أو وجود صديق، إن الذين لا يكافحون القلق يموتون مبكرًا» (6) وكأنما الكسيس كاريل أراد هنا أن يصف الإيمان بالبساطة، لما يراه من سلوك المؤمنين من هدوء وسكينة وعدم المغالاة في حياتهم الدينية، وأن هذا الإيمان أو البساطة، كما يقول هي التي تدفع القلق.

2- الصلاة

والصلاة عامل أساسي لوقاية الإنسان من القلق والتوتر عملا بقوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (البقرة: 45)، ولنا في رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" ، أعظم قدوة ونبراس فكان  "صلى الله عليه وسلم" ، إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة وقال لبلال رضي الله عنه «أرحنا بها يا بلال» (رواه الطبراني في الكبير)، فالصلاة منبع السكينة وراحة القلب، ذلك أن الإنسان أثناءها، يمر بلحظات من الطهر والنقاء، لأنه يقف بين يدي الله يناجيه، فيسمع لشكواه وهمومه، فيزيل ما يسبب شكواه، كما أن إقامة الصلاة في وقتها تحقق للإنسان السعادة العالية والمتعة الراقية، التي تجعلنا نستهين بآلام الحياة ومتاعبها، ولكن على المسلم أن يؤدي الصلاة في خشوع، هذا الخشوع الذي دعى اليه الخالق عز وجل بقوله تعالى {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون:1- 2) هذه الصلاة الخاشعة التي تمد الإنسان بالطاقة الروحية وتوثق الصلة بالله عز وجل، وكثير من علماء النفس الغربيين، أصبحوا يعتبرون الصلاة، أهم أداة لبعث الطمأنينة في النفوس، ولكن أين هي من صلاة المسلم التي تقربه من الله، إذا ما أداها المسلم حقًا في خشوع وهدوء وسكينة ورضا وطمأنينة.

3- ذكر الله

كما من الأمور التي تدفع أسباب القلق والتوتر، حرص المسلم على ذكر الله سبحانه وتعالى، عملا بقوله جل جلاله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28)، ذلك أنه إذا اطمأنت القلوب، وهدأت النفوس واستقرت زال عنها كل خوف وقلق، في حين أن الإنسان الذي يعرض عن ذكر الله هو قاسي القلب جاحد النعمة، بعيد عن الروحانيات، طغت عليه المادة، ولذلك فهو يعيش حياة شديدة القلق مليئة بالمنغصات، مصداقًا لقوله تعالى {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه: 124)، والضنك هو الشقاء الشديد.

4- الدعاء

إذا كان بعض العلماء النفسيين في الغرب أمثال الدكتور «رورهلفروج» يقول «إن من الأدوية الشافية للقلق إفضاء الشاكي بمتاعبه، إلى شخص يثق فيه، حيث إن تحدث المرضى عن متاعبهم بإسهاب وتفصيل، ينفي القلق من أذهانهم، فإن مجرد اجترار الشكوى فيه شفاء» وعلى هذا فإن الإفضاء بالمتاعب إلى شخص، أصبح من الوسائل العلاجية المعمول بها الآن، في كل المستشفيات النفسية والعصبية، كما ينصح الأطباء النفسيون باختيار الشخص الذي نفضي إليه، فليس كل شخص يمكن الإفضاء إليه، وإنما المهم الإحساس بأن هذا الشخص يسمع ويحس ويعين (7)، وقد يساور الإنسان الخوف أو القلق من الإنسان الذي يحكي له فيصيب نفسه بعض الشك الذي يجعله أشد قلقاَ من قبل، ولكن اللجوء إلى الله بالدعاء وإفراغ المتاعب النفسية والهموم إليه سبحانه، يعد خير وسيلة للوقاية من القلق، قال تعالى {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60)، ولنا في رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  خير قدوة وأعظم نبراس في ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا لحق به شيء من عوارض الحياة كالشدة والكرب والغضب وعسر المعيشة، لجأ إلى ربه بالتضرع والدعاء، ومن الأدعية التي علمنا إياها رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  لمنع الأرق والرؤى والكرب قوله عليه الصلاة والسلام «إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون فإنها لا تضره» (رواه أحمد والترمذي)، كما أن هناك أدعية بالفرج من هموم النفس فباب الله مفتوح على مصراعيه لكل صاحب هم، إذا ما توجه إلى الله بقلبه وكيانه، فعن الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  قال «ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال اللهم إنما أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسالك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحدًا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا، فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» (رواه أحمد في مسنده).

5- تلاوة القرآن

كما أن تلاوة القرآن الكريم تبعث في نفس المسلم الهدوء وسكينة النفس وطمأنينة القلب، قال تعالى {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} (فصلت: 44) {يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} (يونس: 57) {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء: 82)، فهل نستطيع بعد وعد الله عز وجل بأن القرآن شفاء ورحمة وهدوء وطمأنينة للمؤمنين من أن نستفيد منه في الخلاص من القلق وما يدعو إلى التوتر ومشاعر اليأس والإحباط؟

أخيرًا

وفي النهاية نقول، إذا كنا اليوم قد افتقدنا عنصري الرضا والأمن النفسي، وهما جناحا السعادة والهناء، وإذا كنا نحيا دائما بين الحزن على ما فات والخوف مما هو آت، وإذا كنا لا نستطيع أن نقتلع الأحزان والخوف والقلق من نفوسنا بمجرد الرغبة في ذلك، فإننا نستطيع على الجانب الآخر أن نتمسك بالدين قولا وعملا ونتحلى بالخلق الكريم، ولنقرأ دائما قوله تعالى {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} (الحديد: 22 – 23).

الهوامش

1- مجلة منار الإسلام، العدد الأول السنة 26، محرم 1421هجرية، إبريل 2000 ميلادية.

2- القلق قيود من الوهم، د/ عبدالستار إبراهيم، الناشر دار الهلال بالقاهرة، ص 13.

3- المصدر السابق، ص 16.

4- المصدر السابق، ص 32.

5- الصلاة وصحة الإنسان، حلمي الخولي، سلسلة دراسات إسلامية، العدد 129، ص 87.

6- المصدر السابق، ص 126.

7- الإسلام والعلم الحديث، د/ عبدالرزاق نوفل، ص 102.

802011433101

د. جاسر عودة :

عندما طرح أئمة المقاصد نظريات للمقاصد منذ الترمذي الحكيم (ت 296هـ) والقفال الكبير (ت 365هـ) والعامري الفيلسوف (ت 381هـ)، مرورًا بالجويني (ت 478هـ) والغزالي (ت 505هـ) والشاطبي (ت 790هـ)، وانتهاء بابن عاشور (ت 1379هـ/ 1973م) (1) والفاسي (ت 1380هـ/ 1974م)، كانت نظرياتهم تصنيفات لنصوص الشريعة حسبما تصوروا من غاياتها والمعاني التي شرعت من أجلها، ولكن قبل الشروع فيما يلي من محاولة لتحليل هذه التصنيفات حسب مفهوم رؤية العالم، وجب القول إن هدف هذا التحليل هو فهم آليات التجديد والإبداع في هذا العلم- علم المقاصد الشرعية- والاستفادة منها في البحث المعاصر، وليس الهدف من هذا التحليل الدعوة إلى نبذ نظريات المقاصد بدعوى عدم مناسبتها للعصر كما قد يتسنى لبعض «التفكيكين» المعاصرين ممن يتبنون فلسفات ما بعد الحداثة، مما سيأتي ذكره في مبحث لاحق، فقناعتي أن المقاصد والمقاصديين أمل كبير من آمال هذه الأمة في تجديد أصيل ومبدع ليس في علومها الشرعية فقط وإنما في علومها الاجتماعية والإنسانية على حد سواء، ولكن هذا التجديد لابد له- فيما يبدو لي- من فهم لقابليات التجديد في نظريات المقاصد نفسها حتى تفعل هذه القابليات التفعيل الصحيح دون إفراط تضيع معه الثوابت الإسلامية أو جمود تتحول فيه المعاني الاجتهادية إلى ثوابت مقدسة.

وقد يسأل: كيف يكون المعنى الواحد نتيجة لرؤية العالم عند المجتهد وفي الوقت نفسه مقصودًا للشارع تعالى؟ والجواب هو أنه لا تناقض بين هذا وذاك، فالمقصد من النصوص الشرعية إما أن ينص الشارع عليه صراحة- كالعدل مثلًا- وإما أن يستقرأ مثل حفظ النسل، فأما المعنى المنصوص عليه صراحة فليس لرؤية العالم دخل في تصور معناه المجرد، ولكن في تصور تطبيقه في الواقع الاجتماعي، فقد تختلف الإجراءات المطلوبة لتحقيق مقصد العدل مثلًا من مجتمع لمجتمع، وهذا مثل ما يسمى عند الفقهاء بمراعاة العرف في تحقيق المناط.

وأما المعنى الذي يستقرأ فلا يتناقض استقراؤه مع كونه مقصودًا للشارع تعالى حسب غلبة الظن عند المجتهد، فإنما الأعمال بالنيات ولا يكلف الله تعالى العباد إلا بما تصل إليه عقولهم بعد بذل الوسع ويغلب على ظنهم الصواب، والله أعلم بمراده في جميع الأحوال، من ذا الذي يدعي أنه أصاب باستقراء أو استنباط قصد الله تعالى على القطع؟ إنما هو الظن والتكلف، ولكنه ظن كلما بني على باع في العلم واستقصاء في البحث اقترب من يقين واستحق به التكليف، فإذا غلب على ظن المجتهد أن معنى معينًا مقصودًا للشارع وجب عليه مراعاته ولزمه ذلك.

والمباحث التالية تضرب أمثلة على الاجتهاد الذي حدث عبر أجيال المقاصديين في مصطلحات الضرورات من المقاصد، وتحاول تحليل رؤية العالم على تطور هذه المصطلحات.

من حفظ النسل إلى بناء الأسرة

ذكر أبوالحسن العامري الفيلسوف «مزجرة هتك الستر» التي شرع لها حد الزنا في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس في كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام»، ثم ورد التعبير الذي اختاره إمام الحرمين الجويني في برهانه وهو «عصمة الفروج»، ثم استخدم تلميذ الجويني أبوحامد الغزالي في مستصفاه تعبير «حفظ النسل»، وهو التعبير الذي تبناه الشاطبي- معلم المقاصد الأول- في موافقاته، أما المعلم الثاني- الطاهر بن عاشور- فقد قدم إبداعًا نوعيًّا حين كتب عن النظام الاجتماعي في الإسلام في إطار غايات الشريعة وأهدافها وكان رائدًا في هذا المقام للمعاصرين من أمثال الشيخ محمد الغزالي ود.يوسف القرضاوي وغيرهم.

وهذا التطور الذي دخل على هذا المصطلح عبر الأجيال كان موازيًا للتطور الذي حدث لثقافة التصورات في مجتمع المسلمين ورؤية العالم عند هؤلاء الأئمة الذين تفاعلوا مع الواقع فيما طرحوه من أطروحات. فـ«مزجرة هتك الستر» اقتصرت على بيان حكمة الحدود الشرعية في هذا الباب، كما ذكر العامري، وهو تعبير يصور مجتمعًا يسعى لسلامته وأمنه بردع المجرمين وهاتكي الأستار فيه، ولكن «عصمة الفروج»- وهو تعبير الجويني- لا يتعلق فقط بردع الجريمة في هذا الباب وإنما يعبر أيضًا عن مبدأ يمتد ليشمل خلقًا منشودًا وحقًّا من حقوق الفرد والمجتمع في عصمة فروجهم، أما «حفظ النسل» فهو أوسع من المفهومين السابقين لأنه يشمل درء المفاسد ودعم المبادئ المذكورة بالإضافة إلى مصلحة الفرد في حفظ فلذة كبده، بل يلقي تعبير حفظ النسل ظلالًا على مصلحة الأمة في حفظ الأجيال الناشئة، وهو مفهوم حضاري أوسع من قضية الزجر عن هتك الستر أو الحفاظ على عصمة الفروج. 

ثم لما أدرج الشيخ القرضاوي «تكوين الأسرة الصالحة» (2) في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر، عكس ذلك المصطلح رؤية للمجتمع تظهر فيها الأسرة كوحدة بنائه الأساسية، وهي رؤية تختلف عن الرؤية التقليدية، وهذا لا يعني أن تلغى «مزجرة هتك الستر» أو تسقط «عصمة الفروج» أو يتناسى «حفظ النسل» وإنما يعني أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية والجماعية جزءًا ونتيجة لبناء الأسرة وفي إطارها، وهو أولى، ولا يخفى أن إعطاء هذه الأولوية لمصلحة الأسرة يعزز من حقوق المرأة- التي تحتاج إلى دعم إذا ما استقرأنا الواقع المعاصر- وحقوق الأولاد الذين هم عماد مستقبل المجتمع والأمة، وحمايتهم جميعًا من التعسف والبخس، وبهذه المرونة في تطوير المصطلح المقاصدي توظف الشريعة الإسلامية في خدمة قضايا الأمة ومصالحها المعاصرة.

من حفظ المال إلى التنمية الاقتصادية

تكلم العامري الفيلسوف عن مقصد سماه «مزجرة أخذ المال» التي شرعت لها حدود السرقة والحرابة، وذلك أيضا في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس، ثم كان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى عن مفهوم آخر من مفاهيم العصمة، وهو «عصمة الأموال» ثم طور أبوحامد الغزالي ذلك المعنى في مستصفاه إلى جزء من نظرية الحفظ عنده وسماه «حفظ المال»، وأصل الشاطبي لنفس المعنى في موافقاته، والمال مذكور في مواضع كثيرة من القرآن، وهو قوام حياة الناس، وأهمية كون المال من طيب الكسب ومكرمة الجود به وعار البخل به كلها مفاهيم أصيلة في ثقافة العرب وتصوراتهم. قال حاتم الطائي مثلا:

إذا كان بعض المال ربا لأهله

فإني بحمد الله مالي معبد

يفك به العاني ويؤكل طيبًا

ويعطى إذا منّ البخيل المطرد

أما في العصر الحديث، فقد توسع مفهوم المال ليشمل مفهوم الثروة والقيمة التي ترتبط بالاقتصاد المحلي والدولي، وعبرت عن هذا التطور نظريات «الاقتصاد الإسلامي» التي زاد البحث العلمي الجاد فيها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة بعد ظهور مشاريع البنوك الإسلامية، ثم حدث تطور نوعي في تناول مقصد حفظ المال عند بعض المعاصرين، وأصبح مفهومًا اقتصاديًّا استقرأ السيد هادي خسروشاهي- مثلا- من أجله من نصوص الكتاب والسنة ما يلزم الدولة بتحقيق التكافل والتعادل والتقريب بين الطبقات بالإضافة إلى ما يحفظ أموال الأفراد من الاعتداء والغصب- وهو المفهوم الأساس (3).

وقد فسر بعض الباحثين المعاصرين حفظ المال بالازدهار الاقتصادي بل والتنمية، فمثلًا، كتب د.أبويعرب المرزوقي (4) (على الرغم من نقده لعلم المقاصد نفسه على أساس «عدم قطعيته»- ويناقش ذلك مبحث قادم): «إنما حفظه (أي المال) يكون بتحقيق شروط تكوينه السوي وأولها الدولة العادلة وشروط توزيعه المناسب للجهد والعدل بحسب ما فرضه الإسلام من معايير، فيكون الحفظ هنا تحقيق شروط المكافأة العادلة التي هي شرط شروط الازدهار الاقتصادي»، وكتب د.سيف عبدالفتاح: «المقاصد الكلية ليست إلا صياغة لمفهوم متكامل للتنمية من منظور حضاري» (5). وهذه الإضافات القيمة بحاجة إلى بحث وتأصيل حتى تربط بالنصوص الشرعية وتفسر من خلالها مصطلحات المقاصد تفسيرًا جديدًا أو لعلها تكون سبيلًا لتقديم مصطلحات مقاصدية جديدة في هذا الباب أقرب لرؤية العالم اليوم فيما يصلح الناس، وهذه آلية لتفعيل المقاصد تفعيلًا يمس مشكلات الناس ويتعامل مع واقعهم، فحسب تقارير الأمم المتحدة في الأعوام الأخيرة، تقع غالبية الدول الإسلامية (وتحتوي على نحو 90? من المسلمين) في مستوى أقل من المتوسط في مقياس التنمية البشرية، والذي هو مفهوم أوسع من التنمية الاقتصادية، تقيسه لجنة التنمية بالأمم المتحدة بناء على عدة مقاييس لمستويات الصحة ومحو الأمية والمشاركة السياسية وتفعيل دور المرأة وسلامة البيئة، بالإضافة إلى مستوى المعيشة».

وبناء على هذه المرونة التي يتمتع بها مصطلح المقاصد، فإنه يمكن صياغة مقصد «للتنمية البشرية» يكون له تميزه بإضافة مقاييس إسلامية تعبر عن قيم الإسلام الأصيلة، فمثلًا، محو الأمية واجب إسلامي، ولكن الإسلام لا يكتفي بمحو الأمية أو التعليم الأساسي لقياس مستوى التعليم في المجتمع كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، إذ يجعل الإسلام من طلب العلم فريضة دون تحديد حد أعلى لذلك ويجعل من التفوق في كل علم أيا كان فرضًا كفائيًّا إسلاميًّا، والمشاركة السياسية في مفهوم الإسلام لا تقاس فقط بنسبة التصويت في الانتخابات أو عدد الوزراء من طائفة أو أقلية ما، كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، وإنما المشاركة في صنع القرار السياسي على كل المستويات مسؤولية إسلامية على كل مسلم، سماها الرسول  "صلى الله عليه وسلم"  «النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم» (6).

من حفظ النفس والعرض إلى حفظ حقوق الإنسان

وحفظ النفس، وحفظ العرض أيضًا من المصطلحات التي عبرت عن تصور لقيم أساسية عبرت عنها كل أجيال المقاصديين، والمصطلحات التي استخدمت في هذا الباب هي: «حفظ النفس» و«مزجرة قتل النفس» و«حفظ العرض» و«مزجرة ثلب العرض» و«حفظ النسل» عند من ضم حفظ العرض إلى حفظ النسل في التقسيم مثل الجويني والغزالي والشاطبي، وتعبير النفس قد ورد بوضوح في القرآن الكريم، ولكن لم يرد فيه تعبير العرض، إلا أنه ورد في حديث رسول الله  "صلى الله عليه وسلم"  مثل: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله»، و«إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم» (7)، والعرض مكون أساسي من تصور الإنسان وعلاقاته الاجتماعية عند العرب- شاع في أشعارهم وأدبياتهم على مدار العصور، لعل من أشهرها الأمثلة التالية:

قال عنترة:

ولقد خشيتُ بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لم ألقهما دَمي

وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:

سأمنح مالي كل من جاء طالبًا

وأجعله وقفًا على القرض والفرض

فإما كريم صنت بالمال عرضه

وإما لئيم صنت عن لؤمه عرضي

وقال حسان بن ثابت  "رضي الله عنه"  في المعنى نفسه:

أصون عرضي بمالي لا أدنسهُ

لا بارك الله بعد العرض في المال

وأما المعاصرون فقد شاع بينهم- في معرض الحديث عن حفظ النفس والعرض- مصطلح «حفظ الكرامة» أو «حفظ الكرامة البشرية» كنوع من التجديد أو التفسير لهذين المصطلحين (8)، ومفهوم الكرامة البشرية لصيق بمفهوم «حقوق الإنسان» الذي تصوره أيضا كثير من المعاصرين في تنظيرهم للمقاصد الشرعية في السياق نفسه (9)، وهذه آلية أخرى لتفعيل المقاصد تفعيلًا يمس مشكلات الناس ويتعامل مع واقعهم.

إلا أنني أرى أنه من الضروري أن تبحث مسألة حقوق الإنسان بشكل مفصل قبل إدماجها بالمقاصد الشرعية حتى يفرق بين ما يدعو إليه الإسلام من حقوق للإنسان تتفق فعلًا مع المبادئ (الأساسية) لحقوق الإنسان العالمية، وبين بعض التفسيرات والإلحاقات لهذه الحقوق في بعض المجتمعات والتي قد تختلف جذريًّا مع ثوابت الرؤية الإسلامية، فمفهوم الحرية التي اعتبرها الطاهر ابن عاشور وعدد من المعاصرين من مقاصد الشريعة الإسلامية- واستدلوا على ذلك باستقراء الكتاب والسنة- يختلف عن مفهوم الحرية عند كثير من الأوروبيين مثلًا، والذي قد تتعدى فيه حرية التعبير إلى حرية الإهانة والسخرية، وحرية اختيار الأزواج إلى حرية الشذوذ أو الخيانة، وحرية التصرف في البدن إلى حرية قتل المرء نفسه أو تعاطي المخدرات، وعليه فالأمر يحتاج إلى تحقيق حتى لا تفسر مفاهيم حقوق الإنسان بما يتناقض مع معايير الإسلام وثوابته، وحتى لا يطلق «مقصد حفظ حقوق الإنسان» على عواهنه ويساء استغلاله.

من حفظ العقل إلى نماء الملكات العقلية والفكرية

مر حفظ العقل بتطور مماثل على مدار الأجيال من التركيز على حد الخمر فقط لكونها مذهبة للعقل إلى توسيع ذلك المفهوم حتى يشمل كل ما يتصل بالعقل من علم وفكر، فمثلًا، كتب د.يوسف القرضاوي: «أرى أن حفظ العقل يتم في الإسلام بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس، شأن «الإمعة»، والدعوة إلى النظر والتفكير في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء إلى آخر ما فصلناه في كتابنا «العقل والعلم في القرآن الكريم» (10).

ومن الجيل الجديد من المقاصديين، كتب د.سيف عبدالفتاح: «حفظ العقل ضرورة من ضرورات العمران- إن نسل كثير ونفوس لا تتمتع بالرشد والعقل إنما يعبر عن كم مهمل أو هو في أحسن الأحوال إضافة سلبية تتحرك ضد مقصود العمران- حفظ العقل باعتباره مناط التكليف وقاعدة حمل الأمانة وأساس لقيمة الاختيار، إن حفظ العقل من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسل مخ، وحفظه من كل ما يذهبه لهو تعبير عن الحفظ الأساسي اللازم لأن يمارس العقل وظيفته وفاعليته في تحرك إمكانات تسكين عناصر متعددة ضمن حياتنا المعاصرة (هجرة العقول- عقلية القطيع والعوام- غزو العقول- استلاب العقول...) (11). و«كتب د.أبويعرب المرزوقي: «القصد بحفظ العقل إن قلنا بنظرية المقاصد وسلمنا بوظيفة الحفظ لا التنمية ليس هو ما فهم الفقهاء كتحريم الخمر أو المخدرات، فمفسدات العقل من حيث هو ملكة طبيعية حرمت نصًّا ولا يحتاج فيها الناس إلى تعليل بمقصد حفظ العقل، إنما المقصود إن صحت نظرية المقاصد تحقيق شروط نماء الملكات العقلية بتحقيق شروط عملها بحرية» (12).

فمن هذه الأمثلة- وغيرها- يظهر التطور الذي يحدث لمصطلح حفظ العقل تبعًا لتغير رؤية العالم لدى المقاصديين، فظهر مثلا تأثير السياسة والاقتصاد في مفهوم «هجرة العقول» الذي ذكره د.سيف، وتأثير الأعراف الاجتماعية والعلمية على مفهوم «العقلية العلمية» الذي ذكره الشيخ القرضاوي، وقس على ذلك.

وهذا التطور في المقاصد سواء وقع من باب إعادة التفسير مع الإبقاء على المصطلح الأصلي (حفظ العقل)- وإعادة التفسير على أي حال سمة عامة في الاتجاهات الفكرية الإسلامية المعاصرة- أو وقع من باب إعادة نحت المصطلح نفسه مثل «مقصد نماء الملكات العقلية والفكرية»، فتوظيف مصطلح المقاصد في التنمية الفكرية والعلمية لا تخفى فوائده.

من حفظ الدين إلى كفالة الحريات الدينية

والمثال الأخير الذي يوضح أثر رؤية العالم على المصطلح المقاصدي هو مفهوم حفظ الدين، الذي بدأ بدوره معبرًا، عن «مزجرة خلع البيضة» بتعبير العامري الذي ارتبط بما يسمى بحد الردة، وانتهى بمصطلح «حفظ الدين» عند كل العلماء الذين كتبوا عن المقاصد من بعد، ليس فقط مستندين إلى ما يسمى بحد الردة ولكن بناء على حفظ العقائد والعبادات وغيرها من شرائع الإسلام.

ثم حدث تطور نوعي مشابه لما مر في تفسير هذا المفهوم، أمثِّل عليه مرة أخرى مما كتب د.سيف عبدالفتاح «لا إكراه في الدين: حفظ الدين في إطار يشمل حركة من الفرد إلى الجماعة إلى الأمة ومن الذات إلى الغير حتى مع اختلاف الأديان» (13). أي إن حفظ الدين يشمل كل الديانات بناء على مبدأ لا إكراه في الدين، وهذا مثال على مدى التغير الذي قد يحدث في مصطلح شرعي حين يعاد تأويله في ضوء رؤية عالم مختلفة، فقد تحول حفظ الدين من مبدأ يقوم عليه «حد الردة» إلى مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية بالمعنى المعاصر.

هل للمقاصد المتصورة حد معلوم أو هيكل نمطي محدود؟

الإجابة المطروحة على هذا السؤال تتعلق أيضًا بقضية الطبيعة التصورية للمقاصد، فإذا اتفقنا على أن المقاصد تصورات نظرية في أذهان المجتهدين، فكذلك المسمى والهيكل- اللذان يمثلان جزءًا من ذلك التصور- قد يتغيران حسب العقول ويتغير الزمان والمكان، ولا يعني ذلك أن الشارع- عز وجل- لم يرتب المقاصد ترتيبًا معينا تنظم فيه، فالترتيب والتنظيم والإبداع في خلق كل شيء وفي تشريع كل شيء نؤمن به عقيدة، ولكن إدراك هذا الترتيب المنتظم- الذي قد يكون أعقد بكثير من أنساقنا الأولية البسيطة- ليس بلازم، ومثلا ذلك الكون المرئي وقد خلقه الباري تعالى بإبداع ونظام وإحكام وتوازن وما له من فطور، وكل مسلم يؤمن بذلك، ولكن محاولاتنا- نحن البشر- لاكتشاف هذا النظام وسبر أغواره كلها ناقصة، وهذا ما تثبته الأيام، فعلى مدار التاريخ كلما تصور علماء الطبية نظامًا في مجال ما نتيجة اكتشاف ما، جاء بعد ذلك بزمن- طال أو قصر- اكتشاف آخر ليعلمنا أن ما سبق كان صحيحًا جزئيًّا فقط وأن درجة أكبر من التعقيد قد تقترب بنا من «حقيقة» النظام الكوني، ولكن ما أدراك ما حقيقة النظام الكوني؟! ويبدو لي أن المقاصد لا تخرج عن هذا المثال، نعم، لابد للمقاصد من حصر وهيكل ونسق، ولكن ما تصل إليه عقول المقاصديين هو اجتهاد يقبل التطور دائما ولا يلزم أن يكون هو الحقيقة كلها.

فمثلًا، قسم العلماء المعاصرون المقاصد إلى مستويات ثلاثة: عامة وخاصة وجزئية (14)، فالمقاصد العامة هي المعاني التي لوحظت في جميع أحوال التشريع أو أنواع كثيرة منها، كمقاصد السماحة والتيسير والعدل والحرية (15).

وتشمل المقاصد العامة الضرورات المعروفة التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، مثل حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والعرض، والمقاصد الشرعية الخاصة هي المعاني التي لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصد عدم الإضرار بالمرأة في باب الأسرة، ومقصد الردع في باب العقوبات، ومقصد منع الغرر في باب المعاملات المالية، وهكذا... والمقاصد الجزئية عرفت بمعنى الحكم والأسرار التي راعاها الشارع في حكم بعينه متعلق بالجزئيات (16)، كمقصد توخي الصدق والضبط في مسألة عدد الشهود وأوصافهم، أو مقصد رفع المشقة والحرج في الترخيص بالفطر لمن لا يطيق الصوم، أو مقصد التكافل بين المسلمين أي عدم إمساك لحوم الأضاحي، وهكذا.

وهناك نسق آخر لتصنيف المقاصد في هرم منتظم من الأهداف في قاعدته الضرورات ثم تتلوها الحاجيات ثم التحسينيات (وهو الهرم الذي يدرس الآن- بحذافيره- في علوم الإدارة الحديثة تحت مسميات مثل هرم الحوافز البشرية وغيرها من دون ذكر ولا إشارة لأي من علماء المقاصد المسلمين الذين استحدثوه استحداثا).

ولكن يبدو لي أنه رغم أهمية مسألة الأولويات نظريًّا وعمليًّا إلا أنه يصعب استقراء مقاصد الشريعة كلها واستقصائها في مستويات هرمية صارمة، فضلا عن أن يُبنى على هذه الهرمية نتائج فقهية بشكل آلي، وهو ما حاوله بعض العلماء الأعلام، فأبوحامد الغزالي مثلا قد رتب الضرورات الشرعية ترتيبا اشتهر بعد ذلك وتابعه عليه كثير من الفقهاء، وهو حفظ الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال (17)، ثم بنى على ذلك الترتيب نتائج فقهية فقال: «عند تعارض مصلحتين ومقصودين، يجب ترجيح الأقوى»، ومثل لذلك بإباحة شرب الخمر تحت الإكراه، وهو متوافق مع تقديم حفظ النفس على حفظ العقل (18)، ولكن أبا حامد ناقض الترتيب حين لم يفت بإباحة الزنا تحت الإكراه، رغم أن النسل متأخر عن النفس في ترتيبه المذكور، والآمدي قد وضع بعض الأولويات الفقهية العملية مثل تقديمه لحفظ الدين على النفس، رغم أن هذا مناقض- مثلا- لإباحة النطق بكلمة الكفر تحت الإكراه، وتأخيره لمقصد حفظ المال عما سواه رغم أن «من قتل دون ماله فهو شهيد»، ولعل هذه الإشكالات هي التي أدت إلى عدم تصريح كثير من العلماء بترتيب محدد في مسألة المقاصد الضرورية مثل الشاطبي، والرازي والقرافي وابن تيمية.

الهوامش :

1- تعريف ابن عاشور: المعاني التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة: محمد الميساوي، دار الفجر (كوالا لامبور)، ودار النفائس (عَمان)، الطبعة الأولى 1999م، ص: 183، التفكيك (deconstruction) هو مصطلح استحدثه جاك دريدا (وهو فيلسوف فرنسي يهودي من أصل جزائري) في الستينيات من القرن العشرين لتفكيك والتخلص- حسب رأيه- من كل تمحور أو مركز حول أي سلطة كانت سواء كانت لنص أو لدين أو لجنس.

{إن الله يأمر بالعدل...} (النحل: 90)، {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد: 25)، وإدخالي للعدل ضمن منظومة المقاصد أنقله عن كثير من العلماء المعاصرين مثل الطاهر بن عاشور ومحمد الغزالي- رحمهما الله، راجع: جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، المعهد العالي للفكر الإسلامي بفرجينيا ودار الفكر بدمشق، 2001م.

2- في ورقته التي قدمها تحت عنوان «بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، دراسة في فقه مقاصد الشريعة» للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية، دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا، لندن، 2006، وقد ذكره من قبل في كتابه: كيف نتعامل مع القرآن الكريم- طبعة دار الشروق.

3- في ورقته التي قدمها تحت عنوان «حول علم المقاصد الشرعية، وبعض أمثلتها التطبيقية» في الندوة المذكورة أعلاه.

4- من بحث «محاولة فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية»- أبويعرب المرزوقي- أرسله لي مشكورًا عن طريق البريد الإلكتروني- وهو على حد علمي تحت الطبع في سلسلة حوارات لقرن جديد- دار الفكر.

5- ورقة قدمها تحت عنوان «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي» للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق.

تحرير: محمد سليم العوا، لندن 2006، وقصد بها التنمية البشرية بمفهومها الشامل.

6- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ج: 1، ص: 75.

7- صحيح مسلم ج: 4، ص: 1986، وصحيح البخاري (الجامع الصحيح المختصر، محمد بن إسماعيل أبوعبدالله البخاري الجعفي، دار ابن كثير، اليمامة- بيروت، 1407- 1987، الطبعة الثالثة، تحقيق: د.مصطفى ديب البغا، ج: 1، ص: 37.

8- يوسف القرضاوي، مدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، مكتبة وهبة، 1996م، ص: 75، أيضًا: ورقة د.عبدالرحمن الكيلاني «القواعد الأصولية والفقهية، وعلاقتها بمقاصد الشريعة الإسلامية» قدمها للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق تحرير: محمد العوا، لندن 2006.

9- مثلا: ورقة «بين مقاصد الكلية والنصوص الجزئية» يوسف القرضاوي- مرجع سابق.

10- نفسه.

11- ورقة «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي»- سيف عبدالفتاح- مرجع سابق.

12- ورقة «محاولة في فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية»- أبويعرب المرزوقي- مرجع سابق.

13- ورقة «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي»- سيف عبدالفتاح- مرجع سابق.

14- انظر: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 26- 35، وفيه تقسيمات متعددة تبعًا لاعتبارات مختلفة.

15- مقاصد الشريعة الإسلامية- محمد الطاهر بن عاشور ص 183- مرجع سابق.

16- طرق الكشف عن مقاصد الشارع - نعمان جغيم ص: 28 - مرجع سابق.

17- محمد بن محمد الغزالي أبوحامد، المستصفى، تحقيق محمد عبدالسلام عبدالشافي، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى 1413هـ، ج:1، ص: 258.

18- نفسه ص: 265.

5 25 2015 10 21 01 AM

إبراهيم نويري :

علم الجدل أو علم مقارنة الأديان- حسب المصطلح الأكثر شيوعا في الوقت الحاضر- هو علم وفن المجادلة، ومقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة. 

وقد سار العقل المسلم- في عصور تألقه الحافلة- وفق هذا المنهج، حيث كان يحقق النصر تلو النصر للإسلام وحضارته وأمته.

وعبر أدوات هذا المنهج الفريد في مقارعة الحجة بالحجة وعرض الدليل على الدليل، اهتدت أقوام واعتنق الدين الحق أناس كثيرون من أهل الكتاب، ومن أجناس ومعتقدات مختلفة!

ويعتبر الإمام الباقلاني واحدا من العقول الجبّارة في فن المناظرة والجدل وبسط الأدلة وفق مقتضيات المنطق العقلي، ومما يروى عنه في هذا السياق أنه ناظر- ذات يوم- كبير بطارقة النصارى، فكان هذا الحوار الرائع الماتع:

• قال البطريق: هل انشق القمر لنبيكم حقا؟

• قال الباقلاني: نعم.

• قال البطريق: فلماذا لم يره إلا أهل مكة؟

• قال الباقلاني: يا هذا، هل نزلت المائدة على المسيح حقا؟

• قال البطريق: نعم.

• فقال له الباقلاني: فلماذا لم يرها أحد منكم؟ نحن قد آمنا بأن المائدة نزلت أيها البطريق، لأن الله تعالى أخبرنا بذلك في القرآن الكريم، فآمنا به كل من عند ربنا.

• قال البطريق للباقلاني: أوما سمعت عن عائشة زوج نبيكم؟

أراد اللئيم أن يطعن أم المؤمنين- رضي الله عنها- على غرار ما أثاره رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول وأتباعه المعاصرون!!

ورد الباقلاني في شموخ: أيها البطريق، هما امرأتان في التاريخ: امرأة لم تتزوج ومع ذلك ولدت، وامرأة تزوجت ولم تنجب.. ونحن برأنا التي لم تتزوج وأنجبت ولدا، لأن الله برأها وقال لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } (آل عمران: 43)، وأنتم اتهمتم أم المؤمنين التي تزوجت ولم تنجب، والله برأها من فوق سبع سموات وقال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (النور: 26).

فسكت البطريق هنيهة، ثم عاد يقول أو على الأصح يهذي: نبينا أطهر من نبيكم.. عيسى أطهر من محمد.  

قال الباقلاني وهو متعجب مما سمع: ولِـمَ؟

قال البطريق: لأن المسيح لم يتزوج ومحمد تزوج.

وسأل الباقلاني البطريق: أمتزوج أنت أيها البطريق؟

قال البطريق: لا.. لأن الزواج نجاسة.

فقال له الإمام الباقلاني: كيف تقول: إن الزواج نجاسة، ولم تتزوج أنت، ومع ذلك قلتم: إن الله تزوج بمريم؟

فهل أنت أطهر أم الله العلي القدير أيها البطريق؟! أنت لم تتزوج بقصد الطهارة، ومع ذلك قلتم إن الله قد تزوج.. أأنت أطهر أم الله؟!

وهنا ما كان من البطريق إلا أن صرخ قائلا: وهو يرتعش من هول الحقيقة البازغة: يا إمام، والله لقد قلت حقا ونطقت صدقًا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

هذا هو الباقلاني صاحب الأسفار النفيسة «إعجاز القرآن»، «كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الكفر والعناد»، «كشف الأسرار في الرد على الباطنية»، «المقدمات في أصول الديانات».. وهذا هو منهجه في الانتصار للحق ولعقيدة التوحيد الخالص، وهذا هو المنهج ذاته الذي التزمه العقل المسلم عبر حقب إيناع الحضارة الإسلامية السمحة وتألق الفكر الإسلامي الوضاء.

قصة أسير مسلم

وفي هذا السياق المتوهج بأشعة العقل، الطافح بمنادح النظر المؤمن، المسيج بحقائق الأدلة الغامرة نسوق - للقارئ الكريم- قصة هذا الشاب المسلم، الذي انتصر لدينه وعقيدته بسبب تضلعه في هذا الفن الإسلامي العجيب.. فن المناظرة، أو علم المجادلة، والقصة واقعية ومن حقائق تاريخ حضارتنا الرائدة.

قال التاريخ: سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة، طبعها الحزن بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السيئ وهم يخترقون بلاد الروم منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟!

ونظروا إلى زميلهم «واصل» الشاب الفقيه الذي ترك دراسته بدمشق واكتتب في هذه الغزوة الفاشلة، كان واصل يبدو غير مكترث بما حدث، فقد استمع إلى حديث رسول الله  "صلى الله عليه وسلم" : «ما من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا استوفت أجرها كله»، ولكن واصلا كان مكتئبا لأمر

واحد، فهو يعلم أن الأمير بشيرا الذي يساقون إلى قصره كان مسلما ثم ارتد، وأن ثمن ردته هذه الإمارة العريضة التي يتطاول فيها! واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، سألهم عن دينهم، وجادلهم في بعض عقائده، فلما جاء دور واصل أبى أن يرد عليه بشيء، فقال له: ما لك لا تجيبني؟ 

فقال: لست مجيبك اليوم بشيء. فقال إني سائلك غدا فأعد لي جوابا، وجاء الغد، وأدخل واصل على الأمير الذي بادره الحديث بعد حمد الله والثناء عليه قائلا: عجبا لكم معشر المسلمين، حيث تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (آل عمران: 59)، وما يستوي عبد ورب!

ورأى واصل أن يستأمن لنفسه قبل أن يجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعزّ وأجلّ مما وصفت، وأما ما ذكرت من صفة هذين الرجلين عيسى وآدم فقد أسأت وأخطأت! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان، وينامان ويستيقظان ويفرحان ويحزنان؟!

قال بشير: بلى.

قال واصل: فلمَ فرقت بينهما؟

وردّ بشير: لأن لعيسى روحين اثنتين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرت من أحوال الناس!

- روحان اثنتان في جسد واحد؟!

قال بشير: نعم.

قال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف مكان الضعيفة؟

قاتلك الله! تعلم أو لا تعلم.. ماذا تريد؟

أريد إنْ كانت تعلم، فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشري وآفاته؟! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره في جسد؟! فسكت بشير محتارًا!!

واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدّستم الصليب؟!

قال بشير: هذه من تلك.. ماذا تريد؟

وأجاب واصل: إن كان بسخطه فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما سأل، وإلا فبالله كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟!

قال بشير: أراك رجلا قد تعلمت الكلام فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه، وأمر باستدعاء رجل من علماء القسس ليجادل هذا «الشيطان».

فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربي له رأي وعقل وأصل في قومه، وأحب أن يدخل ديننا. فأقبل القس على واصل يحتفي به ويمتدحه، ثم قال: غدا أغمسك في المعمودية غمسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك!

قال واصل: فما هذه المعمودية؟!

- ماء مقدس.

- من قدّسه؟!

- أنا والأساقفة من قبلي.

- فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرأون من النقص؟

- كلنا فعلنا الخطايا، وليس هناك مبرأ إلا يسوع.

- فكيف يقدّس الماء من لم يقدس نفسه؟!

وهنا اضطرب القس وحار ثم استدرك: إنها سنّة عيسى بن مريم غطسه يوحنا بالأردن ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!

فقال واصل: أو احتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا إذن يوحنا فهو خير لكم من عيسى.

فسكت القس واغتاظ بشير وامتلأ صدره على هذا القس، فصاح به كالمهووس: قم! دعوتك لتنصّره (تجعله نصرانيا) فإذا أنت قد أسلمت!

وانتشر خبر الأسير الفقيه، ومحاوراته الطريفة بسرعة فائقة حتى بلغ الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذي بلغني عنك من انتقاصك لديني ووقيعتك فيه؟

قال واصل: إني لم أجد بدا من الدفاع عن ديني.

فتدخل كبير البطارقة محاولا بوقاره وهيمنته الروحية أن ينهي هذا الأمر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتة: هل للحبْر الأعظم من زوجة وولد؟

وعرف الملك على الفور مثار التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد!

فقال واصل برباطة جأش ويقين فياض: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا، وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن.. عجبا! تعبدون عيسى لأنه لا أب له، فلمَ لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان، أو عبدتموه لأنه أحيا الموتى؟ فعندكم في الإنجيل أن «حزقيل» مر بميت فأحياه

وتكلم معه، فضموه كذلك إلى شركة الآلهة! أو أنكم عبدتموه لأنه أراكم المعجزات؟

فهذا «يوشع» رد الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه لأنه عرج في السموات؟ فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو أنكم... فقاطعه البطريق: اخسأ يا شيطان.. هذا التجديف أحلّ بك القتل!

فقال واصل: إني أسير.. وثم ورائي منْ إذا بلغه خبري لم يمنعه مسلككم معي من أن يثأر لي.

أيها الملك: سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التي في كنائسكم هل تجدون لها في الإنجيل مبررا؟ فإن كانت في الإنجيل فلا كلام لنا، وإلا فما أشبهكم بالوثنيين.

قال الملك: وقد أخذته دهشة وانجلت عن بصره غشاوة: صدقت، قد يعقل ما تقول!

وفي هذه الأثناء استشاط القس وامتلأ غضبا، فقال في حالة هستيرية: هذا شيطان من شياطين العرب، أخرجوه من حيث جاء، لا تقطر من دمه قطرة في بلادنا فتفسد علينا ديننا!

وعاد «واصل» ومن معه من الأسرى، وقد بدّلوا انكسارهم بانتصار.

دين الحجة والتسامح

ومن الأمارات الدالة على أن الإسلام وحده دين الحق والبرهان والخلود، جمعه البيّن بين فضيلتي قوة الحجة والمنطق، واحترام العقل والنظر، وبين خلق التسامح والحفاوة بالرأي الآخر، ووجهة النظر المغايرة، ويكفي الإسلام فخرا وسموا في هذ الخصوص أنه خلّد الرأي الآخر في محاورات أنبياء الله الكرام مع بعض أقوامهم من المشركين والكافرين والزائغين، وجعل ذلك الرأي قرآنا، وذكرا يتلى عبر كل العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومما لاشك فيه أن التسامح عند المسلمين لم يقتصر على الجدال العقائدي والفكري والفلسفي، لما يؤمن به الآخرون من أهل الأديان، والمذاهب واتساع الصدر لمناقشة هؤلاء الأتباع في رؤية متزنة، وخلق عالٍ ومنهجية نادرة فحسب، وإنما نجد أن الأمر تجاوز هذه الحدود إلى واقع المجتمع الإسلامي ذاته، وإلى نطاق مختلف الآفاق التي يسمح بها التشريع الإسلامي في التعامل مع أهل الذمة، وتقرير حقوقهم وإنسانيتهم.

فمن مظاهر التسامح الإسلامي أن العرب والمسلمين كانوا إزاء نصارى الأندلس يسمحون لأساقفتهم بعقد مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر إشبيلية النصراني الذي عقد سنة 782م (أي بعد واحد وسبعين عاما من الفتح الإسلامي)، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد سنة 852م.

ومن الكنائس القبطية المشهورة التي بنيت في العصر الإسلامي كنيسة «مارجرس» بحلوان وكنيسة «أبي مينا» وغيرهما كثير.

وفي هذا السياق دائما يروي التاريخ أيضا أنه لما غزا التتار بلاد الإسلام، ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين ودان ملوكهم (التتار) بالإسلام خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى فاستجاب الأمير التتري، ففك أسرى المسلمين وأبى أن يسمح بفك أسرى النصارى، فقال له شيخ الإسلام: لابد من فك الأسرى من اليهود والنصارى لأنهم أهل ذمتنا.. فأطلقهم له.

135613919352

محمد الفاتح حمدي :

يعتبر الدين الإسلامي من أكثر الديانات انتشارًا في العالم، وإقبالًا عليه من قبل المعتنقين له، ويعتبر هذا الدين الوحيد الذي جمع بين ما هو مادي وروحي في الوقت نفسه من خلال ما جاء به القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة، يقول عز وجل في محكم تنزيله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (فصلت: 9).

الملاحظ على المجتمعات الغربية أنها رغم ما وصلت إليه من تقدم وازدهار في الجانب المادي فإنها مازالت بعيدة في جانبها الروحي و المعنوي، الذي أهملته في بناء حضارتها الجديدة والقديمة، وهذا ما يجعلها مهددة بالانهيار والزوال مع مرور الأيام، مثلما وقع مع العديد من الإمبراطوريات التي صنعت لنفسها مكانة في الماضي، مثل الحضارة الرومانية، والتي شهد لها التاريخ بالتفوق والسيطرة على العالم، ولكن في وقتنا الحاضر لم يبق منها سوى الاسم فقط.

فإذا كانت الحضارات الغربية أساس بنائها مادي بحت فإن الحضارات الإسلامية كان عمادها وأساسها مبنيين على شقين: الروحي والذي كان مصدره الإسلام، والشق الثاني أساسه المادة والوسيلة، وهذا ما جاء به سيد الخلق أجمعين   "صلى الله عليه وسلم"   في رسالته المحمدية التي كانت موجهة إلى جميع سكان هذه القرية العالمية دون تمييز، وما يميز هذه الرسالة الإسلامية أنها جمعت بين الجانب الروحي والمادي في الوقت نفسه، فهي رسالة فريدة في معانيها ومنهجها الرباني الشامل لكل المعاملات والعلاقات الإنسانية وامتدادها الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 162)، فهذه الرسالة موجهة للناس كافة دون تمييز بين ألوانهم وأشكالهم وأعراقهم، وإنما جمعت بين أفراد هذه الأمة تحت غطاء واحد اسمه الدين الإسلامي.. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا: كيف عرف الغرب الإسلام؟ 

كيف عرف الآخر (الغرب) الإسلام؟

لقد دخل الإسلام إلى أوروبا من بوابات تاريخية عدة، فكان الفتح الأندلسي أول باب يدخل منه الدين الإسلامي إلى بلاد الغرب سنة (132هـ– 424م) عن طريق الفتوحات التي كان قائدها طارق بن زياد الذي فتح الأندلس، وكان لهذا الفتح تأثير كبير في تعريف الناس بالدين الإسلامي في تلك الفترة، فدخل في الإسلام العديد من الذين استطاعوا أن يتعرفوا على ما جاء به الإسلام من قيم تدعو إلى العدل والمساواة ونبذ التمييز العنصري وتدعيم حرية الرأي، وثاني بوابة دخل منها الإسلام هي إقامة المسلمين لمملكة في شمال إيطاليا والتي دامت مائة سنة في جبال الألب غرب فرنسا، وحسب بعض الدراسات الأوروبية كان عدد المسلمين في هذه المملكة لا يتعدى80 شخصًا، ولكن رغم قلتهم فإنهم عملوا على نشر الإسلام في هذه المملكة.

كما عرف الآخر الإسلام عن طريق فتح جزيرة صقلية سنة 1212م، وظل فيها الحكم الإسلامي مدة قرنين من الزمن، وقد تلقى المسلمون معاملة حسنة من قبل أهل هذه الجزيرة إلى أن هاجمهم الجرمن، أما البوابة الثالثة فكانت من خلال موجة العثمانيين في القرن الثامن الهجري، وكان أكبر فتح قام به العثمانيون هو فتح القسطنطينية سنة 1453م من قبل السلطان الخامس محمد الفاتح، كما كان للتجار الذين كانوا يقطعون نهر الفولقا دور في نشر الإسلام في بلاد الغرب.

والبوابة الرابعة كانت من خلال الاستعمار الحديث ودخوله للعديد من البلدان العربية والإسلامية(1)، ومن خلال هذه الحملات تعرف الآخر على ما جاء به الدين الإسلامي من قيم ومعان تدعو إلى التسامح والتعارف والمحبة والمودة: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }(الحجرات: 13). فإذا كان الغرب قد عرف الإسلام من بوابات عدة وفي فترات مختلفة وبآليات متنوعة، فإن الغرب مازال إلى وقتنا الحاضر معرضًا عن الدين الإسلامي، ورغم الجهود الدعوية التي بذلت فإنها فشلت في إبلاغ الآخر رسالة الدين الإسلامي، وإيضاح حقيقة ما جاء به من أفكار ومبادئ وقيم تدعو في مجملها إلى نبذ العنف والعدوان، كما أن الآخر لم تسمح له الفرصة المواتية من أجل الاطلاع على المنهج الرباني المستقيم، ولهذا قد نتساءل مرة أخرى: ما هي رسالة المسلم في المجتمع الغربي؟

فهذه المجتمعات بلغت من الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا الحديثة حدا لم يبلغه مجتمع من المجتمعات الإنسانية، سواء في الحاضر أو في الماضي القريب والبعيد، وفي مقابل ذلك نجد أن رسالة المسلم رسالة عقدية اجتماعية, لأن الأزمة الاجتماعية في هذه المجتمعات بلغت حدًّا أصبحت تهدده بالدمار الكامل، وستنتهي به إن استمرت إلى ما انتهى إليه المجتمع الروماني من قبل، فالصيحات تتوالى من علماء الاجتماع والنفس ورجال الدين ودوائر الأمن ومؤسسات الإصلاح الاجتماعي، معترفة بالفشل، منذرة بسوء المصير، والإنسان غريب حائر مرعوب يفترسه الخوف والضياع والانحلال، ويكفي أن نقدم ما كتبه باحث أميركي حيث قال: «إن أميركا مفككة إلى حد لا يطاق، ونحن في أمس الحاجة إلى الإحساس بالحياة الاجتماعية، ومن السهل أن نفهم أميركا الضائعة الأرواح حيث لا يرتبط الفرد بشيء، فهو يبحث عن هويته، يبحث في العمل وفي المهنة وفي التقدم الاقتصادي عن علامة تميزه وتخبره من هو» (2). 

وهذه الأزمات التي تجتاح المجتمعات الغربية تحتاج إلى نوع من الإنسان يقوم وجوده أصلًا على حمل رسالة الإصلاح في العالم كله، بشكل يشغله عن أي هدف آخر في الدنيا، فالقرآن الكريم يقرر أن المسلمين أخرجوا للناس كافة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، والقوم الذين يقصرون في هذا الواجب يستبدلهم الله بقوم آخرين لا يكونون مثلهم، فالرسول   "صلى الله عليه وسلم"   يقرر أن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أبرهم بعياله، وهو ينذر المسلمين في أحاديث كثيرة بأن بقاءهم مرهون بحملهم لرسالة الإصلاح، فإن تقاعسوا لم يستجب الله لهم إذا دعوه، ولم ينصرهم إذا استنصروه، ولم يعطهم إذا سألوه، وإذا كانت رسالة الإسلام بدأت في غار حراء، فإن رسالة المسلم ومسؤوليته لن تتوقف حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد، ويكون الدين كله لله.

إذا كانت رسالة المسلم هي تبليغ هذه الرسالة المحمدية إلى جميع أقطار المعمورة، فقد وفق العديد من الدعاة في حمل مشعل الدعوة الإسلامية خارج البقاع العربية نحو المجتمعات الغربية، وخير قدوة الرسول الكريم   "صلى الله عليه وسلم"   الذي وهب حياته وماله ونفسه وكل ما يملك في حياته من أجل نصرة الدين الإسلامي ورفع كلمة الله عز وجل لتكون هي العليا وكلمة المنافقين هي السفلى، كما كان   "صلى الله عليه وسلم"   مؤسس جيل من الدعاة كانوا جديرين بحمل مشعل الدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية، ولكن ما نلاحظه اليوم في الواقع هو فشل وتراجع لدور دعاتنا في تبليغ هذه الرسالة التي منهجها القرآن والسنة النبوية الشريفة، كما أنهم فشلوا في عرض هذه الرسالة على المجتمع الغربي، وعلى ذلك فسؤالنا هذه المرة: كيف نوفق في عرض الإسلام في المجتمعات الغربية؟ وما هو المنهج الأصلح والأنسب لذلك؟

أسباب فشل المسلمين في تبليغ الغرب الدين الإسلامي

إن فشل المسلمين في إيصال وتبليغ الغرب وتعريفه بالدين الإسلامي يرجع إلى أمور عدة، وأسباب ترسخت في نفوس و عقول دعاتنا، فلم يستطيعوا التخلص من الخرافات والأساطير التي أصبحت تؤرق حياتهم، وجعلتهم عاجزين عن التقدم خطوة نحو دعوة الآخر للدخول في الإسلام، إلا من رحم ربي، فإذا كان المسلم ما زال مصابًا بداء اتهام الاستعمار بأنه سبب فشلنا وتخلفنا عن الركب الحضاري وعن مسايرة عصر المعلومات والتكنولوجيا الحديثة.. فهذا خطأ ولابد من إزاحته من أذهاننا، وأول من يجب اتهامه وتحمليه مسؤولية تخلفنا هي أنفسنا، فإذا كنا اليوم أمة إسلامية وعربية غير متحدة في علاقاتها الخارجية والداخلية، فكيف ننجح في كسب الآخر ودعوته إلى الدخول في دين الإسلام؟ وخير مثال يصف لنا حالتنا الواقعية ما يحدث لإخوتنا في غزة بين البارحة واليوم، مئات القتلى من الأطفال والنساء والشباب، بين مساء يوم وصبيحة يوم تال أطفال ونساء يعانون الجوع والمرض والفقر تحت حصار مدفعيات اليهود أعداء الله! إنه من العار علينا ومن الخزي على أمة إسلامية غنية كل هذا الغنى أن يترك إخواننا في غزة يأكلون علف الحيوانات! وهذا خير دليل على الفرقة التي يعاني منها المسلمون والعرب في أمة واحدة دينها الإسلام ولغتها العربية لغة القرآن، أبهذه الطريقة نثبت للآخر أننا أمة إسلامية متماسكة ومتحدة؟!

دعوة الآخر

من أجل دعوة الآخر إلى الدخول في الإسلام لابد من التجرد الكامل من الهوى وعدم تدخل الغايات والأهداف ذات المصلحة الشخصية، لأن هناك العديد من دعاتنا جعلوا من الدعوة طريقا من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف وأغراض دنيوية، كالتجارة والدراسة وكسب المال، ونسوا رسالتهم التي ذهبوا من أجلها إلى الغرب، وصدق الإمام أبوحامد الغزالي حين قال: «طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله»، وكمثال للدعاة المخلصين في هذا العصر أذكر ذلك الداعية المتواضع الذي ترك الطب والدراجات العليا في العلم وفي كسب المال والثروات وفضل أن يكون مع أطفال أدغال إفريقيا، والذي أسلم على يديه أكثر من ثمانية مليون شخص، إنه الداعية الطبيب عبدالرحمن السميط.

ثم تأتي الموازنة بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي للإسلام، فالإسلام ليس عرضًا نظريًّا، بل هو سلوك عملي في حياة المسلمين، ولهذا يجب على دعاتنا أن يعيشوا الإسلام في حياتهم وسلوكاتهم قبل دعوة الغرب إليه مع الحذر من الذوبان في ثقافة الآخر.

أما المبدأ الثالث، فيتمثل في التواضع والشفقة على الآخرين؛ لأن المطلوب من دعاة هذا العصر أن يكونوا أحسن خلف لصحابتنا رضوان الله عليهم، وأن يجعلوا التواضع سمة لهم أثناء دعوتهم للآخرين، وأن يهتموا بأوضاعهم وشؤونهم الحياتية؛ لأن إعطاء قدر من الاهتمام للآخر يجعله يتخذك قدوة في حياته.

وكذلك يجب التركيز على الأصالة والتميز، لأن من الأمور التي يجب أن يحتاط منها الدعاة في بلاد الغرب الحذر من جعل الإسلام انتماء عرقيّا، لأن هذه السمة تعد عائقا في كسب الآخر ودعوته للإسلام، ولهذا يجب علينا في بلاد الغرب أن نجعل من بيوت الله أماكن توحد الجاليات المسلمة، وتجمع الطوائف والأقليات المختلفة تحت مظلة واحدة هي مظلة الإسلام، لأن الطائفية تزرع في مخيلة الآخر صورة سلبية عن الإسلام، كما يجب أن نحذر من التقاليد المحيطة التي تتعارض مع روح الإسلام في الأخلاق والأعمال و الممارسات الإدارية والعلاقات مع أفراد المجتمع.

أما المبدأ الخامس، فيتمثل في اجتهاد الدعاة في إدخال مفاهيم ومصطلحات جديدة إسلامية إلى المجتمع الغربي في وسائله الإعلامية، ولهذا يجب أن نعد العدة من أجل جعل وسائلنا الإعلامية تعطي صورة مشرقة عن الإسلام والمسلمين، واستغلال اللقاءات الشخصية، وعمل الجمعيات الخيرية واتحاد الطلبة وترجمة المعاني الإسلامية إلى اللغات الأجنبية، كما تلعب هذه الوسائل دورا رئيسيا في نقل المؤتمرات واللقاءات إلى الآخر، ورغم تعدد الوسائل المستخدمة في الدعوة الإسلامية فإن الهدف واحد وهو الدعوة إلى الإسلام بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في حوارنا مع الآخر، وهذا ما جاء في محكم التنزيل، يقول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125).

إن التزام دعاتنا بهذه المبادئ في دعوة الآخرين إلى معرفة دين الحق، يجعلهم يتقربون من هذا الدين خطوة خطوة، ويجعلهم مقبلين عليه عندما يدركون أنه منقذهم من الهلاك والضياع والانتحار والجريمة، ويوفر لهم الراحة النفسية والطمأنينة التي مازالوا يبحثون عنها إلى يومنا هذا، فوجدوها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العطرة، إنه القرآن الكريم.. المنهج والمسلك المستقيم الذي يجب أن نسير عليه حتى نلقى الله عز وجل.

الهوامش:

1- انظر أحمد عيساوي، محاضرات علمية في الدعوة الإسلامية، الجزائر: جامعة باتنة، كلية الشريعة، 2008_2007، بتصرف.

2- ماجد عرسان الكيلاني، رسالة المسلم في المجتمع الأميركي، كتاب الأمة، عدد 28، الدوحة،1991، ص: 128.

book5 opt2252

السنوسي محمد:

قضــــية الــــتراث ومـــا يتصل بها - تعريفا وقراءة وإحياء ومقارنة - هي من القضايا التي أخذت حيزا كبيرا من حياتنا الفكرية المعاصرة، والتي يتحدد بناء عليها موقفنا من قضايا عدة، تتفرع عنها وتتصل بها.

وهي - إضافة لذلك - من القضايا التي ثار حولها لغط كثير؛ إذ إن طرح النقاش أو الجدال حول قضية التراث قد جاء في سياق «المواجهة الحضارية الشاملة، التي جاءت بها أوروبا إلى بلادنا حاملة معها نواتج نهضتها، ووسائل تقدمها.. وأصبحت القضية المطروحة على العقل المسلم بإلحاح: كيف نواجه التحدي ونواكب العصر؟ هل نعوض مركب النقص، ونعالج هذه الأزمة النفسية، ونردم فجوة التخلف، بتبني الثقافة والتقنية الغربية» (1).

وتنبع أهمية «التراث» من كونه «الهوية الثقافية للأمة، والتي من دونها تضمحل وتتفكك داخليا، وقد تندمج ثقافيا في أحد التيارات الحضارية والثقافية العالمية القوية» (2).

وهذه الأهمية للتراث لا تقتصر على ما يتصل بالأمة الإسلامية، بل هي «قانون حضاري» يشمل كل الأمم، فلكل أمة تراثها الذي يشكل دورا محوريا في تكوين هويتها، إذ «لا هوية للذات بغير الاستناد إلى تراثها» (3). ولذا فإن «الشعوب لا تستعيد في وعيها - ولا يمكن أن تستعيد - إلا تراثها، أو ما يتصل به، أما الجانب الإنساني العام في التراث البشري كله، فهي تعيشه داخل تراثها لا خارجه» (4).

مفهوم التراث

تشير مادة «التراث» لغويا إلى ما يورث عن الآباء من مال أو جاه (5)، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى المال الموروث، في قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا } (الفجر: 19) (6). أما مصطلح «التراث» في الاستخدام الفكري فقد اختلف فيه اختلافا كبيرا؛ لأنه لم يكن معروفا لدى المسلمين على النحو المستخدم به حديثا، إنما هو مصطلح وافد من البيئة الغربية، ومحمل بدلالات خاصة بتلك البيئة، ومن ثم نشأ الاختلاف حوله حينما وضع في البيئة الفكرية الإسلامية.

و«التراث» بصفة عامة يمكن تعريفه من «زاويتين: تراث السلوك والعادات والقيم غير المكتوبة؛ وتراث الإبداعات الفكرية والفنية والأدبية، المكتوبة أو المسجلة والمرئية المحفوظة» (7).

أما التراث داخل الخطاب النهضوي العربي الحديث والمعاصر، فيقصد به بصورة أساسية: «الجانب الفكري في الحضارة العربية الإسلامية: العقيدة، والشريعة، واللغة، والأدب، والفن، والكلام، والفلسفة، والتصوف» (8).

الثراث والأصالة.. والمعاصرة

قد يستخدم مرادفا لمصطلح «التراث» مصطلح «الأصالة»؛ ويقصد به: «وضوح الهوية، وتتبع أصولها الحضارية، وهذا يتأتى عن طريق تمثل تراث الأمة» (9).

أما المصطلح المقابل لـ«التراث» في الاستخدام الفكري فهو مصطلح «المعاصرة»؛ وهو يعني: «العيش في خضم العصر، والتفاعل مع العالم المحيط» (10).

ويلفت الأستاذ عمر عبيد حسنة النظر إلى خطأ من يطرحون مفهوم «التراث» أو «الأصالة» في مقابل مفهوم «المعاصرة»، متصورين أنه يلزم الأخذ بأحدهما فقط؛ لأن «الحقيقة البادهة: أن لا معاصرة دون أصالة، ولا أصالة صادقة دون معاصرة فاعلة» (11).

ثم يتساءل: هل المواكبة للعصر، وقبول التحدي يفقدنا الهوية، ويؤدي لضياع الذات؟ أم أن الأساس الصحيح، والتجربة التاريخية (الأصالة) تعطينا نوع أمن، وتجعلنا قادرين على النزول إلى الساحة استجابة لخطاب التكليف، وتسلحنا بالمقاييس الصحيحة للقبول والرفض، والقدرة الهاضمة للثقافات والمنجزات الحضارية، دون الذوبان أو الخوف؟! (12).

التراث.. والقرآن والسنة

إذا كانت الأمة الإسلامية قد انبعثت في الوجود مع نزول القرآن الكريم، وإذا كانت علومها المختلفة قد ولدت من رحم هذا الكتاب المحفوظ من التبديل والتغيير، حينما تفاعلت الأمة مع كتاب ربها - فهما واستنباطا وتطبيقا - حتى نشأت وتألقت عشرات العلوم والمعارف، لاسيما حين نشطت حركة التدوين في منتصف القرن الثاني الهجري حتى القرن الرابع.. فإن هذه النشأة وهذا التفاعل كانا سببا رئيسيا في حدوث الاختلاف حول مفهوم «التراث» ومضامينه، وهو الاختلاف الذي يتبلور في السؤال التالي:

هل يدخل القرآن الكريم والسنة النبوية في إطار التراث مع بقية العلوم الأخرى، أم نستثنيهما لأنهما يتصلان بالوحي المعصوم، غير خاضعين للفعل الإنساني؟

• الرأي الأول ذهب أنصاره إلى أن «التراث الإسلامي» هو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وصناعات وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، ومن ثم فهو يشتمل على الوحي الإلهي (القرآن والسنة). وإن كان أنصار هذا الرأي يفرقون في النظرة والتعامل بين الوحي، فهو لا يقبل الانتقاء والاختيار منه، ولا محاولة تطويعه للواقع، وبين المنجزات البشرية الحضارية والثقافية، فهي قابلة للانتخاب والتوظيف، وفق الرؤية المعاصرة، وحسب الحاجة والمصلحة (13).

ويرى هؤلاء أن القول بالفصل بين القرآن والسنة باعتبارهما وحيا إلهيا، وبين النتاج الثقافي والحضاري في التراث، قد يكون الغرض منه أن يتم «الانتقاء والنقد بحرية دون المساس بالعقيدة الدينية». ولذا فهم يؤكدون أن هذا القول «يبعد عن واقع المشكلة الحقيقية؛ لأن الفصل غير ممكن عمليا، ولأن النقد يمكن أن يتعرض للعقيدة والشريعة من خلال نقد قيم التراث المستمدة من الوحي الإلهي» (14).

• أما الرأي الثاني فيذهب القائلون به إلى عدم دمج الوحي بالتراث، ويرونه مفارقا له؛ لأن التراث في اعتقادهم «إنجاز إنساني خالص، أو مبدعات إنسانية يكون الإنسان فيها هو الصانع، وهو المورث للآتي بعده. بتعبير آخر: لا تراث إلا ما هو عرضي إنساني زماني، ولا مورث إلا ويكون عرضيا إنسانيا زمانيا. وهذا يعني أنه لا مدخل ذاتي للأمور الإلهية في دائرة التراث» (15).

فالتراث حسب رأيهم يشتمل في نهاية التحليل على ثلاثة عناصر: العلوم، والمصنوعات، والقيم. وهم يقصدون - من تحديد التراث على هذا النحو - توضيح أن العلاقة بين «التراث» و«لمقدس» علاقة مصطنعة تماما، نشأت من توهم دخول القرآن والسنة في التراث باعتبار أنهما - بحسب هذا التوهم - من العناصر المكونة للتراث، مما أضفى على التراث طابع «المقدس».

ولذا فهم يؤكدون أن توهم دخول القرآن والسنة في التراث هو مجرد وهم؛ لأن القرآن ليس هو علوم القرآن، ولأن علم أصول الدين أو الفقه أو أصول الفقه ليست هي الدين نفسه، فهذه العلوم جميعا هي «كلام» تاريخي على الدين، وعلى الوحي. وهي بهذا الاعتبار تاريخية إنسانية، أما الوحي نفسه فهو الإلهي، وهو المجاوز للتاريخ. تلك العلوم تراث أما الوحي فليس بتراث (16).

• ويمكن أن أعقب بالقول: إن الخلاف بين هذين الرأيين ليس ذا بال؛ لأنهما يتفقان على أن منهج التعامل مع الوحي يختلف اختلافا جذريا عن التعامل مع غيره، سواء أدخلنا القرآن والسنة تحت مظلة «التراث»، أم أخرجناهما منها.

وبالتالي، يمكن أن نعد هذا الخلاف من باب التأكيد والتنبيه على حقيقة الفروق بين الوحي من ناحية، والذي هو متجاوز للزمان والمكان، ويجب له التسليم والخضوع، وبين المنجزات البشرية حوله من ناحية أخرى، والتي هي متأثرة بزمانها ومكانها، ونقبل منها بقدر ما تقترب من الوحي، أما ما خالف الوحي فمردود على قائله.

ولذا صح عن الشافعي  "رضي الله عنه"  قوله، الذي صار بمثابة قاعدة لميزان التراث وغربلته: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، وفي رواية: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث، فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط».

التراث.. والقراءة المزورة

بالإضافة لهذين الرأيين السابقين حول موضع القرآن الكريم والسنة النبوية من مفهوم «التراث» ومضامينه، فإن هناك قراءة مزورة للعلاقة بينهما، تلقي بظلال قاتمة على مفهوم «التراث».

وهي قراءة المستشرقين، ومن دار في فلكهم، الذين يجمعون في سياق واحد بين القرآن والسنة، وبين العطاء البشري المستمد منهما، لا بقصد التأكيد على «ربانية» ونقاء التراث الإسلامي، أي رفع التراث البشري قريبا من المصدر الإلهي، بل بقصد أنسنة الوحي الإلهي، وإخضاعه للمناهج والأدوات التي يتم التعامل بها مع النصوص الأدبية والفكرية، أي إنزال الوحي من مرتبته العليا السامية إلى مستوى العقول البشرية القاصرة، التي لا تسلم من غبش في الرؤية، وتخليط في المنهج، وزيغ في القصد.

هكذا تعامل الغربيون مع تراثهم الديني: التوارة والإنجيل، وقد يكونون معذورين في ذلك، بسبب ما دخل على هذه المصادر من تحريف، وما ظهر فيها من تناقض؛ لأنها دونت بعد انقطاع زمني كبير من عهد أنبيائها، ولم تخضع عند جمعها وتدوينها لمثل ما التزم به جامعو السنة النبوية من تدقيق وتمحيص.

وهكذا يراد لتراثنا أن يتم التعامل معه، نقدا وقبولا ورفضا، دون أي اعتبار للوحي المحفوظ من التحريف والتبديل، المنزه عن التناقض والاختلاف.

فعلى سبيل المثال، يقدم صاحب «التراث والتجديد» رؤية زائفة للتعامل مع التراث، تحتفظ له بأهميته ومصطلحاته من حيث الشكل، لكن تفرغه من مضمونه ومحتواه؛ حتى لتزعم أن «الله: لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي إنه تعبير أدبي، أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي، أكثر منه وصفا خبريا» (17)!

وتهدف تلك المحاولة الزائفة إلى «التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة، سواء كانت الموروث، أو سلطة المنقول» (18).

ويعقب د. عمارة على هذا التخريب لتراثنا، قائلا: هنا تطالعنا «آلهة التنوير الغربي» لتحل محل الموروث - كل الموروث - فلا سلطان إلا للعقل والمادة، وهي محاولات تسير على درب التنويريين الغربيين الذين «أنسنوا» كل الإلهيات، بحيث يتم التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة، من مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، «في علم أصول الدين؛ لأنها قطعية.. ولأنها تجاوز الحس والمشاهدة»؛ فكل ما يجاوز الحس والمشاهدة، وكل ما لا يتأنسن، يجب تأويله بل والتخلي عنه وإلغاؤه (19).

نحو قراءة صحيحة

في مقابل ما يمكن أن نسميه القراءة الجامدة للتراث والقراءة المزورة له، تبدو الحاجة ماسة إلى قراءة أخرى صحيحة منصفة له، بحيث:

• تدرك أولا أن للوحي - قرآنا وسنة - دورا محوريا أساسيا في تكوين تراثنا العريض الممتد، وفي تشكيل عقلنا ونموذجنا المعرفي.

• وتفهم ثانيا أن هذا «الوحي» ليس على مستوى واحد، فمنه ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وهذا النوع من النصوص قليل جدا بالنسبة إلى سائر النصوص، ولا مجال فيه للاجتهاد. كما أن منه ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة، وظني الثبوت، قطعي الدلالة، وظني الثبوت والدلالة، وهذا فيه مجال للاجتهاد المنضبط بآليات فهم النص القرآني والنبوي. إضافة إلى ذلك، توجد وقائع لم ترد فيها نصوص، ويسميها د. القرضاوي بـ «منطقة الفراغ التشريعي»، وهي المنطقة التي تركتها النصوص- قصدا - لاجتهاد أولي الأمر والرأي، وأهل الحل والعقد في الأمة، بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي (20).

• وتستوعب ثالثا أن العلماء قد أوسعوا «منطقة الفراغ التشريعي» - وغيرها مما هو محل للاجتهاد - تنظيرا وتقعيدا ودرسا، ومن غير المعقول أن نرمي وراء ظهورنا جهودهم التي تراكمت عبر قرون متطاولة! لاسيما وأن أحدا لم يزعم العصمة أو القداسة لعالم أو مفكر، فلا عصمة إلا لرسل الله وأنبيائه عليهم جميعا الصلاة والسلام.

• وتعي رابعا أن «التراث» و«المعاصرة» هما وجهان للنهضة الراشدة، لا غناء بأحدهما عن الآخر.

وتبقى الأمانة معلقة برقابنا تستحثنا على مواصلة طريق الاجتهاد والإبداع، مستفيدين من تلك الثروة والآليات والمناهج، مطورين لها، مشدودين دائما إلى النص القرآني والنبوي ومقاصدهما، غير متجاوزين للثوابت والقطعيات، وغير مسفهين لمن سبقونا على الدرب، وغير منقطعين عن الاستفادة مما عند غيرنا في إطار رؤيتنا وثوابتنا.

حينئذ نكون قد أحسنا قراءة «التراث» قراءة صحيحة، وأدينا حقه وأمانته عندنا، وقمنا بواجبنا كما ينبغي نحو واقعنا المعاصر وتحدياته.

الهوامش :

(1) من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب: «التراث والمعاصرة»، د. أكرم ضياء العمري، ص: 8، 9، سلسلة «كتاب الأمة»، العدد رقم 67، ط1، 1405هـ، قطر.

(2) د. أكرم ضياء العمري، «التراث والمعاصرة»، ص: 35.

(3) د. طه عبدالرحمن، «سؤال المنهج»، ص: 59، ط1، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت.

(4) د. محمد عابد الجابري، «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»، ص: 52، 53، المركز الثقافي العربي، ط4، 1985م، الدار البيضاء.

(5) راجع «المعجم الوسيط»، ص: 1066، 1067، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط4، 2008م، مكتبة الشروق الدولية.

(6) جاء في «التحرير والتنوير» لابن عاشور: «والتراث: المال الموروث، أي: الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه».

(7) سامي خشبة، «مصطلحات فكرية»، ص: 66، طبعة مكتبة الأسرة 1997م.

(8) د. محمد عابد الجابري، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات»، ص: 30، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1991م، بيروت.

(9) د. أحمد صدقي الدجاني، «فكر وفعل»، ص: 122، دار المستقبل العربي، ط1، 1985م.

(10) المصدر نفسه، ص: 122.

(11) من تقديمه لكتاب: «التراث والمعاصرة»، د. العمري، ص: 13.

(12) المصدر نفسه، ص: 13، 14.

(13) د. أكرم ضياء العمري، «التراث والمعاصرة»، ص: 27، 28، باختصار يسير.

(14) المصدر نفسه، ص: 24.

(15) د. فهمي جدعان، «نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى»، ص: 17، دار الشروق، ط1، 1985، عمان، الأردن. باختصار يسير.

(16) المصدر نفسه، ص: 17- 19، باختصار وتصرف يسير

(17) د. حسن حنفي، «التراث والتجديد»، ص: 113، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4، 1992، بيروت.

(18) المصدر نفسه، ص: 52.

(19) د. محمد عمارة، «الإسلام بين التنوير والتزوير»، ص: 190، 191، دار الشروق، ط1، 1995م. باختصار وتصرف يسير.

(20) د. يوسف القرضاوي، «الخصائص العامة للإسلام»، ص: 223، مكتبة وهبة، 1989. باختصار وتصرف.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال