-
الأربعاء، 25 نوفمبر 2015 08:54
-
كتب بواسطة: adminkw
زهية فراح :
من بديع صنعه سبحانه وتعالى أن خلق النفس البشرية، ونفخ فيها من روحه، وعلمها من علمه، وأسجد لها الملائكة بعظمته. بالمقابل، استودع هذه النفس النفيسة في أعناق أصحابها مكرمة معززة، لا يملكون إحياءها ولا هلاكها، إنما جعل الله حفظها واجبا عليهم، ومن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، التي من شأنها ضبط تصرفات البشر وتوجيه سلوكياتهم على الوجه الذي يعصمهم من التفاسد والتهالك على ظهر الأرض.
قال تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77).
غير أن واقع الحال في صراع وصدام دائمين مع ما يجب أن يكون، فظاهرة إرهاب الطرقات التي ضربت بجذورها العميقة في وطننا العربي طغت واستفحلت لتصبح مرآة تعكس طمس الكرامة الإنسانية، وكذا التنكيل بالنفس البشرية المعصومة بالإسلام واستحلال دمائها. يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29).
وبالنظر من بؤرة الإحصاءات، تؤكد لنا منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي أن حوادث الطرق تعتبر ثاني الأسباب الرئيسية للوفاة بين سكان العالم، خصوصا في الفئة العمرية المحصورة بين 5 و29 سنة، كما أنها تعتبر السبب الثالث الرئيسي للوفاة بين سكان العالم في المرحلة العمرية من 30 إلى 44 سنة. ويقتل إرهاب الطرقات 12 مليون نسمة سنويا، أما عن مخلفاته من الإصابات والإعاقات والعاهات فهي ما بين 20 و25 مليون إصابة.
أما فيما يخص وطننا العربي من المحيط إلى الخليج، فتشير دراسة صادرة عن الجامعة السعودية، اعتمدت في دراستها على مؤشرات عالمية، أكدت هذه الدراسة أن مؤشرات حوادث المرور في الوطن العربي تفوق ما يماثلها في الدول الأخرى بمراحل كثيرة، كما أنها أشد حدة وقسوة ودموية (1).
إن حقائق هذه الحوادث صادمة مؤسفة، وكذا ألمها موجع قاس لا يستشعره إلا من عايشه وتجرع مرارته على اختلاف مظاهرها.. من نفوس توفى إلى بارئها.. إعاقات وعاهات تلازم أصحابها.. نساء ترمل وأطفال تيتم.. مظاهر توحدها القسوة والألم غير أن أسبابها تفرقها الظروف والأحوال، مما جعلها عديدة ومتشعبة، أبطالها الفرد والمركبة والطريق. أما أسباب الحوادث فيما تعلق بالطريق والمركبة فنجد:
- انتشار ظاهرة الغش في بيع قطع الغيار، الأمر الذي دفع عجلة حوادث المرور في وطننا العربي.
- عدم مرور المركبة على المراقبة، وكذا قدمها من الأسباب ذات الأثر البالغ في زيادة انتشار هذه الظاهرة.
- عدم استيفاء الطرق لشروط الأمن والسلامة، حتى الطرق الجديدة تفتقد عنصري التفاني والإتقان.
الأسباب السالفة الذكر تعتبر ثانوية مقارنة بما يتحمله الفرد من مسؤولية كبرى تجاه هذه الحوادث المرعبة التي عاثت في الأرض الفساد، ولم يتورع أصحابها عن الولوغ في الدماء، وكذا استحلالها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: «الفساد إما في الدين وإما في الدنيا، فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر» (2).
فساد الدنيا مسؤولية الفرد، وكذا المجتمع، فقيادة المركبة، وإن كانت سلوكا فرديا، غير أنها امتداد يعكس سلوكا ووعيا اجتماعيا لدى الدول، فإن ساد الوعي بأحكام الشريعة الغراء وبضرورة حفظ النفس مما يهلكها، درئت المفاسد وولت. وإن غاب الوعي بأحكامها، فالفرد المسلم يتحمل المسؤولية الأعظم من التسيب الذي هذه مظاهره:
- غضب الطرقات ظاهرة طاغية في مجتمعاتنا العربية، تعكس التوتر والمشاحنات بين السائقين في محاولة للوصول أولا ولو على حساب أمنهم وسلامتهم، في صورة تعكس انعدام الوعي، خصوصا عند الشباب، بضرورة حماية أنفسهم وكذا غيرهم.
- تعاطي المخدرات والمسكرات، وهي من أكثر الأسباب فتكا بالعباد، بمن فيهم الأبرياء، كيف لا وهذه المخدرات تؤثر بشكل مباشر في الجهاز العصبي، مما يجعل التحكم في المركبة شبه مستحيل.
- التصرفات الصبيانية واللامسؤولة لبعض الأفراد للتمتع بالسرعة المفرطة.
- حيازة بعض الأفراد رخص القيادة ممن يفتقدون أخلاقيات القيادة السليمة.
هكذا هي الأسباب عديدة ومتعددة تعدد الحوادث التي نسمع بها في كل نشرة تذاع أو خبر يلقى، وقد طرح الباحثون في مجال إرهاب الطرقات عدة حلول علها تحد من استفحال الظاهرة.
- التربية المرورية وضرورة تدريسها في مختلف الأطوار المدرسية في محاولة لتربية الأفراد منذ الصغر على ضرورة احترام القوانين وحفظ النفس من كل سوء قد يطالها، فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
- الابتعاد عن الغش، ليس فقط في هذا المجال، وإنما في كل مجالات الحياة، فعن أبي هريرة "رضي الله عنه" أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «من غشنا فليس منا» (3).
- منظومة متكاملة تعمل على مواجهة الظاهرة بما تحوزه من حملات توعوية، ومحاضرات توجيهية، وأيام دراسية كلها تصب في مجال الأمن والسلامة عبر الطرق.
- ضرورة سحب رخص القيادة ممن يفتقدون أخلاق القيادة.
- المسؤولية الكاملة والتصرف الرشيد أثناء القيادة يوحيان باحترام الشريعة الإسلامية وما جاء فيها من حفظ للنفس، وكذا الابتعاد عن مذهبات العقول.
ليبقى السبيل الرئيسي لدرء مفسدة إرهاب الطرقات ليس فقط بالتربية المرورية والحلول المقترحة سابقا، إنما بالتربية الشاملة للفرد المسلم، ففي النهاية هو صورة نموذجية للشخصية المسلمة المتوازنة التي تدرك كل الإدراك ما تفعل، وإلام سينتهي إليه فعلها، والأكثر من ذلك تدرك أيما إدراك كرامة هذه النفس التي بين جنبيها، والتي كرمها الله من فوق سبع سماوات.
يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء:70).
الهوامش
1- عامر بن ناصر المطير، حوادث المرور في الوطن العربي.
2- اقتضاء الصراط المستقيم، ص76.
3- رواه مسلم.