السبت، 27 يوليو 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

الدكتور أحمد زكي عاكف وتأديب العلم

د. محمود صالح البيلي - دكتوراه في الأدب والنقد: قيض الله سبحانه وتعالى للعربية من الكتاب من جمع ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

323 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

قدوتى

4 23 2015 9 49 40 AM

د. مصطفى رجب :

تحدث الكتاب العزيز عن الصحابة رضوان الله عليهم في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ  ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:54). وقد روى الحاكم في المستدرك أن رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  عندما نزلت عليه هذه الآية، أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال: «هم قوم هذا». كما تحدث القرآن عن بعض القبائل التي أظهرت تمسكها بالدين، وحبها لرسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  مثل جهينة ومزينة - فيما روى الإمامان الجلالان – اللتين نزل فيهما قوله الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التوبة: 99).

إلا أن هناك آيتين امتازتا بأنهما تناولتا بصورة مباشرة أوصاف صحابة رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  وجزاءهم ومكانتهم عند الله سبحانه وتعالى، وعلى هاتين الآيتين وما آزرهما من أحاديث شريفة بنى العلماء أحكامهم الخاصة بالتعامل مع الصحابة، وما ينبغي لهم من التأدب عند ذكرهم.

أما أولاهما فهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا  ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100).

والثانية قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ  وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ  تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا  سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ  ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ  وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح: 29).

هاتان الآيتان هما الأصل فيما يجب على المسلم من التأدب مع جميع الصحابة، فإن الله سبحانه وتعالى اختارهم لصحبة نبيه، ونقل رسالته لمن بعدهم من الأجيال المسلمة. وإلحاق العيب أو النقص بهم، فيه غمز في الشريعة عموما، لأنهم كانوا أوعية نقلها.

من هو فضالة بن عبيد؟

هو أبو محمد فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس بن صهيب بن أصرم ابن جحجبى الأنصاري الأوسي. شهد بيعة الرضوان، وشهد أحدا - على ما قال الواقدي - والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" ، ثم خرج بعد وفاة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  إلى الشام فسكنها، وتوفي بها سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، وقيل: سنة تسع وخمسين في عهد معاوية.

وقد شهد فضالة فتح مصر، وشارك فيه مع الفاتحين، وأقام فيها مدة، فقد نقلت إلينا كتب السيرة والسنة أنه تولى القضاء والبحر في مصر لمعاوية بعض الوقت، وروى عنه من أهلها: أبو خراش الصحابي، والهيثم بن شفي، وعبد الرحمن بن جحوم وغيرهم.

ولما استقر المقام لفضالة في بلاد الشام ذاع صيته بها، فقد رووا أن الصحابي الجليل أبا الدرداء كان قاضيا على دمشق أيام معاوية، فلما احتضر عاده معاوية، فسأله عمن يرشحه لتولي القضاء بعده، فقال: فضالة بن عبيد، فلما توفي أبو الدرداء، قال معاوية لفضالة: إني قد وليتك القضاء، فحاول فضالة أن يعتذر، فقال له معاوية: «والله ما حابيتك بها (أي: والله ما وليتك هذا المنصب محاباة لك)، ولكني استترت بك من النار».

فضالة المربي:

كان الصحابي الجليل فضالة بن عبيد واحدا من أولئك الصحابة الذين اعتنوا كل العناية بالفقه والتعلم، فكان يداوم على حضور مجالس النبوة، ويشارك في الغزوات، ويناقش غيره من الصحابة فيما سمعوا - في غيبته - من النبي الكريم  " صلى الله عليه وسلم" .

وكان يجمع إلى التفقه والعلم، قوة الشخصية والحزم والشجاعة والورع والتقوى، ولكن تلك الصفات اجتمعت في كثيرين غيره من الصحابة، فما تميز به من بينهم؟

في رأينا أنه تميز بصفة المعلم المربي الذي يحرص على إبلاغ العلم لغيره، والحث على العمل به. وأدلتنا على ذلك كثيرة منها:

1- أننا تتبعنا مروياته في كتب السنة فوجدنا مروياته يغلب عليها الطابع العملي. فهو من الذين نقلوا عن النبي الكريم  " صلى الله عليه وسلم"  السنة العملية، أي أفعال النبي  " صلى الله عليه وسلم"  التي شاهدها فضالة.

2- أن كثيرا من الأحاديث التي رواها أو رويت عنه كانت ذات صبغة تعليمية. فكثير منها يبدأ بقول أحد تلاميذه: سألنا فضالة عن كذا وكذا، فقال: كذا وكذا.

3- أن سلوكه - في بعض أحاديثه - كان سلوكا عمليا، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره، فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يأمر بتسويتها. والنسائي في سننه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يأمر بتسويتها.

ومن مواقف فضالة التربوية ما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: غزونا مع فضالة بن عبيد - ولم يغز فضالة في البر غيرها - فبينا نحن نسرع في السير، وهو أمير الجيش، وكانت الولاة إذ ذاك يسمعون ممن استرعاهم الله عليه، فقال قائل: أيها الأمير، إن الناس قد تقطعوا، قف حتى يلحقوا بك. فوقف في مرج عليه قلعة، فإذا نحن برجل ذي شوارب، فأتينا به فضالة، فقلنا: إنه هبط من الحصن بلا عهد، فسأله فقال: إني البارحة أكلت الخنزير، وشربت الخمر، فأتاني في النوم رجلان فغسلا بطني، وجاءتني امرأتان، فقالتا: أسلم، فأنا مسلم، فما كانت كلمته أسرع من أن رمينا بالزبار فأصابه، فدق عنقه، فقال فضالة: الله أكبر، عمل قليلا، وأجر كثيرا. فصلينا عليه، ثم دفناه (الزِّبار - بتشديد الزاي المكسورة -: نوع من الحجارة الصغيرة).

ففي هذه الرواية درسان تربويان كبيران، أولهما: ما أشار إليه راوي القصة من حسن قيادة فضالة وتبسطه في الحديث مع رجاله، واهتمامه بالاستماع إلى آرائهم والعمل بها إذا وافقت الصواب.

والدرس الثاني: هو سرعة بديهته وحسن تصرفه فور مصرع الرجل، فقد علق على إسلام الرجل الذي جاء سريعا وموته الذي أعقب إسلامه بلسانه.

ومن مواقفه التربوية التي تكشف عن صفة بارزة ينبغي للمعلم والقاضي والحاكم أن يتحلى بها وهي: سعة الأفق، وحسن التصرف، ما روي عن ابن هشام الغساني قال: حدثني أبي عن جدي قال: وقعت من رجل مائة دينار، فنادى: من وجدها، فله عشرون دينارا، فأقبل الذي وجدها. فقال: هذا مالك، فأعطني الذي جعلت لي. فقال: كان مالي عشرين ومائة دينار، فاختصما إلى فضالة، فقال لصاحب المال: أليس كان مالك مائة وعشرين كما تذكر؟ قال: بلى، وقال للآخر: أنت وجدت مائة؟ قال: نعم، قال: فاحبسها ولا تعطه، فليس هو بماله، حتى يجيء صاحبه.

نماذج من أفكاره التربوية:

ولم يتوقف العطاء التربوي عن سيدنا فضالة  "رضي الله عنه"  عند حدود السلوك العملي، فما نقل إلينا من أقواله يؤكد ما ذهبنا إليه من انطباع شخصيته بطابع المعلم المربي، فقد رووا عنه أنه قال: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنه تعالى يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27).

وعندما سأله أحد تلاميذه أن يوصيه، قال له: خصال ينفعك الله بهن؛ إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف، فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل. وهذه الكلمات - على وجازتها - من جوانب التربية السلوكية، فهو يأمره بأن يطلب العلم، ويجالس العلماء، ويسمع منهم، دون أن يسعى إلى الشهرة وحب الظهور، ولا يتوهمن متوهم أن هذه الوصية تدعو إلى كتمان العلم وعدم نشره، كما يظهر من قوله: (وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم ) فحاشا لصحابي جليل مثل فضالة أن يذهب هذا المذهب، وهو يعلم أن الجزاء الشديد الذي توعد الله تعالى به الذين يكتمون ما آتاهم الله من البينات والهدى. فهو لا يدعو تلميذه إلى العزلة أو كتمان العلم. فسلوكه العملي  "رضي الله عنه"  عندما استعفى معاوية من القضاء فلم يجد أذنا صاغية، فقبله على غير رضا، يدل على أن العالم إذا أسند إليه منصب أوجب عليه تبليغ أحكام الله وما عنده من العلم أذعن واستجاب، سعيا لأن يكون من الأئمة الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولكنه  "رضي الله عنه"  قصد بهذه الوصية أن يبث في نفس تلميذه الذي سأله الوصية، روح التواضع، وتجنب حب الظهور، والحرص على التقوى، واجتناب التسرع في بث العلم قبل العمل به.

ومن آراء فضالة التربوية المأثورة أيضا قوله: «ثلاث من الفواقر، إمام إن أحسنت، لم يشكر، وإن أسأت، لم يغفر، وجار إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أفشاها، وزوجة إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك، في نفسها وفي مالك». فهذه ثلاث آفات إذا أصابت مجتمعا تفككت أوصاله، وساء حاله، وفاضت به أوحاله، فالزوجة سكن لزوجها يطمئن إليها، والجار سند لجاره يحفظ غيبته، ويرعى حرمته، ويقيل عثرته فإذا ساءت أحوال الزوجة والجار، فلنا أن نتصور كم تكون الحياة إذ ذاك قاسية على صاحبها. وتزداد قسوتها إذا كان إمامه (بمعنى رئيسه الأعلى) لا يرعى حقوق مرؤوسيه، فلا يعرف أقدارهم، ولا يقبل أعذارهم.

التربية العملية في السنة من خلال مرويات فضالة:

كما قلنا في صدر هذا الحديث، كان سيدنا فضالة  "رضي الله عنه"  ممن يهتمون برواية السنة العملية مما شهده حال صحابته للنبي الكريم  " صلى الله عليه وسلم" ، وقد حفلت كتب السنة بنماذج سلوكية للتربية العملية في السنة رواها فضالة بن عبيد  "رضي الله عنه"  فمن ذلك:

1- ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده: أخبرني أبو هانئ الخولاني أنه سمع علي بن رباح اللخمي يقول: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أتي رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : الذهب بالذهب وزنا بوزن.

2- ما أخرجه مسلم بسنده في صحيحه عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيـد قال: كنـــا مع رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله:  " صلى الله عليه وسلم"  لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا وزنا بوزن.

3- ما أخرجه الترمذي في سننه بسنده عن أبي هانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة بن عبيد أن رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  كان إذا صلى بالناس، يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين أو مجانون، فإذا صلى رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة. قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" .

4- ما أخرجه الترمذي في سننه بسنده عن أبي هانئ الخولاني عن أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد قال بينا رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  قاعد إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي، ثم ادعه، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلى على النبي  " صلى الله عليه وسلم"  فقال النبي  " صلى الله عليه وسلم" : أيها المصلي ادع تجب.

5- ما أخرجه النسائي في سننه عن مكحول عن ابن محيريز قال: سألت فضالة بن عبيد عن تعليق يد السارق في عنقه؟ قال: سنة. قطع رسول الله  " صلى الله عليه وسلم"  يد سارق، وعلق يده في عنقه.

 لقد كان لذلك الصحابي الجليل كثير من التلاميذ الذين رووا عنه، منهم: حنش الصنعاني، وعبد الله ابن محيريز، وعبد الرحمن بن جبير، وعمرو بن مالك الجنبي، وعبد العزيز بن أبي الصعبة، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعلي ابن رباح، وميسرة مولى فضالة.

gd eyGTCc 

درس الهندسة الإلكترونية وعلوم التلاوة والقراءات ليجمع خيري الدنيا والآخرة

ختم القرآن الكريم كاملا برواية حفص عن عاصم وله إصدارت صوتية متعددة الروايات

القاهرة - محمد عبدالعزيز:

(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).. و(عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه).. عبر هذين الهديين القرآني والنبوي شب في أرض العراق نبت مسلم، اتخذ من التنزيل الحكيم رفيقا دائما لحياته وسراجا يشع ضياء وإيمانا على خطواته.. فحمله القرآن إلى آفاق أبعد من كل طموحاته وأحلامه.. تعالوا نتعرف إلى مسيرة قارئ صدق ما عاهد الله عليه، فصدقه الله.

21143

صلاح فضل توقه :

يستحق الدكتور عبدالرحمن السميط، عن جدارة، أن يكون رائد العمل الخيري في العالمين العربي والإسلامي في هذا العصر، فخلال عمره، الذي ناهز خمسة وستين عاما، قدم كثيرا من وقته، بل جل سنوات عمره، في نشر الدعوة الإسلامية، وخدمة المسلمين وغير المسلمين، ولا سيما في قارة أفريقيا، التي حمل على عاتقه من مشكلاتها ومآسيها ما تنوء بحمله الجبال، ولكن السميط حملها، وتحملها، استشعارا منه بمسؤولية المسلم تجاه إخوانه المسلمين مهما باعدت بينهم المسافات، أو فصلت بينهم الحدود، مقتفيا في ذلك حديث النبي  " صلى الله عليه وسلم"  عن النعمان ابن بشير قال: قال رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (1).

تعتبر هذه النقطة تحديدا (جسدية الأمة) القاعدة التي انطلق منها الدكتور عبدالرحمن السميط في عمله الخيري والإنساني، والتي تفسر لنا أيضا تفانيه العظيم في هذا المجال، وريادته المستحقة له، وتميزه فيه.

فقد لفت انتباه الدكتور السميط أثناء استكماله دراسته العليا للطب في جامعتي ليفربول البريطانية وماكجل الكندية، حجم الأعمال الخيرية الموجهة لمصلحة الفئات المستضعفة والمعوزة في تلك المجتمعات، كما لاحظ أيضا أن هناك جهودا مبذولة وموجهة إلى الخارج، خصوصا في دول القارة الأفريقية، في صورة حملات، تحمل في ظاهرها الجهود الإغاثية بينما باطنها يحوي أخطارا محدقة، ولا سيما بالمجتمعات المسلمة، التي توضع الخطط من أجل تنصيرها، وتعتبر مثل هذه الحملات الإغاثية من الأدوات الرئيسية المهمة لتنفيذ هذه المخططات.

ولذلك، قرر مواجهة هذه الأخطار، والحد من آثارها المحتملة على عقيدة المسلم، والمجتمعات المسلمة. وكان سبيله إلى ذلك هو العمل الخيري، الوسيلة نفسها التي يستخدمها أعداء الأمة لاختراق عقول أبنائها وتبديل معتقداتهم وقيمهم.

ورغم العاطفة الجياشة للدكتور السميط تجاه أمته وأبنائها وقضاياها، فإنه تخطى مرحلة العمل المدفوع بنوازع الحب والرحمة والشفقة، وهذا وإن كان في مجمله أمرا حسنا ومحمودا، إلا أنه لا يقيم عملا يرجى منه بناء جيل ورفعة أمة، فهذا لن يتحقق إلا عن طريق عمل منهجي قائم على أصول شرعية ومنهجية علمية، وهذا ما قام به على أرض الواقع. ولذلك، فإن ريادة الدكتور عبدالرحمن السميط للعمل الخيري في العصر الحديث، لم تأت من فراغ، ولم تكن وليدة الصدفة، وإنما كانت نتيجة لمنهج اختطه لنفسه، وتابعه بخطوات وإجراءات مخططة ومحددة ومضبوطة شرعيا بأحكام الشريعة الإسلامية ومتطورة علميا بمواكبة أحدث ما وصل إليه العمل الخيري، علميا وفنيا.

ومن خلال تحليل سيرة السميط نستطيع أن نضع أيدينا على أهم ملامح هذا المنهج.

التأصيل للعمل الخيري

كان الدكتور السميط على قناعة كاملة باحتواء الدين الإسلامي ونصوصه الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على قواعد العمل الخيري وأصوله، وهو ما يجب أن نعود إليه في تأصيلنا للعمل الخيري، وتفعيله على أرض الواقع. وكان يرى أن الإسلام سبق بهذه الأصول غيره من الملل السابقة عليه، كاليهودية والنصرانية. ولم تستطع أن تجاريه في ذلك النظريات والفلسفات الوضعية التي جعلت من خدمة الإنسان محورا لها، كما أدعت في ذلك الشيوعية.

وكان عمل الدكتور السميط الخيري هو تطبيق لهذه الأصول النظرية التي وردت في الكتاب والسنّة، والتي تتحدث عن عمل الخير وأنواعه، وأهميته، وجزاء فاعله في الدنيا والآخرة.

دعوة إلى الله

لم تقف جهود الدكتور السميط عند العمل الخيري وجوانبه المختلفة التي تظهر في صورة مشروعات ومساعدات اجتماعية، وإنما جعل من العمل الخيري وسيلة وطريقة للدعوة إلى الإسلام، ومواجهة خطط المنصِّرين في الدول الإسلامية، ولا سيما في أفريقيا، التي أفزعه ما يفعله المنصرون بها، فشد إليها الرحال، وأعطاها من عمره وجهده ما لم يعط لغيرها، ولم يعطها غيره مثل ما أعطاها الشيخ السميط، وكأن الله قد اطلع على صدق نيته تجاه دينه وأمته ففتح الله على يديه قلوب الملايين فدخلوا في دين الله أفواجا، حتى لقب بفاتح أفريقيا، كما بنى بها المئات من المساجد، والمدارس، والمستشفيات، والمراكز الإسلامية الشاملة.

وفي هذا الصدد، تشير كثير من الإحصائيات المنشورة عن جهود الشيخ الدعوية إلى أنه أسلم على يديه:

- مئات الألوف من القبائل الوثنية، والقبائل النصرانية.

- الملايين من الأفراد.

كما أنه صحح المعتقدات الباطلة، التي يعتنقها بعض من ينتسبون إلى الإسلام اسما لا إيمانا واعتقادا، وكان سببا في عودتهم من جديد إلى حظيرة الإسلام. كما اهتدى على يديه كثير من أبناء الأسر المسلمة الذين راحوا ضحية للمنظمات التنصيرية، فأعادهم إلى الإسلام من جديد.

ولم تقف جهود الدكتور عبدالرحمن السميط الدعوية عند هذا الحد فقط، وإنما قام بإعداد وتدريب الدعاة ليقوموا بالدعوة بين قومهم وقبائلهم، وفي هذا الأمر نجاح كبير للدعوة، حيث إن الداعية المنتمي إلى هذه الشعوب يكون أدرى بحال قومه، وأقدر على التواصل معهم بلغتهم، وأكثر استيعابا لعاداتهم وتقاليدهم، مما يساهم في نجاح الدعوة وتقدمها بين هذه الشعوب، وهو ما فطن إليه الشيخ السميط فوظفه لخدمة الدعوة الإسلامية.

كما طبع الشيخ السميط الآلاف من الكتب الإسلامية بمئات اللغات المحلية ووزعها على أبناء القبائل، وكان السميط حريصا على إيصال الإسلام إلى كل مكان في أفريقيا، فأنشأ العديد من الإذاعات باللغات القومية والمحلية، لمخاطبة الناس، ولا سيما الذين لا يستطيعون القراءة، فكانت هذه الإذاعات منبرا قويا لإيصال رسالة الإسلام إلى هذه الشعوب.

فلم يكن تحرك الشيخ -رحمه الله- بين هذه الشعوب تحركا عشوائيا، أو بدافع العاطفة، إنما كان تحركه ودعوته بين هذه القبائل والشعوب، بشكل مدروس قائم على معرفة طبيعة هذه الشعوب من حيث ماهية الأديان التي يعتنقونها (يهودية - نصرانية - وثنية)، والعادات والتقاليد والثقافات والأفكار السائدة بها.

ونشير أيضا إلى درس نتعلمه من المنهج الدعوي للشيخ السميط -رحمه الله- وهو «التسامح» مع الآخر المخالف في العقيدة، وهذا التسامح في حد ذاته دعوة قائمة بنفسها. فالتسامح وسيلة دعوية، وخلق إسلامي حميد، إن أخلصناه لله سيكون سببا في فتح القلوب لدين الله، وهذا ما قام به الشيخ في أفريقيا، فمما يذكر له أن الله فتح على يديه قلب أحد قادة القبائل النيجيرية، وهو سلطان إيسالي، وقد أراد أن ينهي وجود النصارى في قبيلته ويهدم كنائسهم، ولكن الشيخ السميط رفض هذا العمل، وبين له أن ذلك ليس من هدي الإسلام، بل إن الإسلام يكفل حرية العبادة لهم ولا يجبر أحدا على الدخول فيه.

ومما يؤثر للشيخ أيضا أنه في دعوته للإسلام، لم يكن يتحدث عن النصرانية أو يهاجمها، كما يفعل المنصرون في مهاجمتهم للإسلام، ولكنه كان يصون لسانه عن ذلك، ويركز كلامه على بيان محاسن الدين الإسلامي، وبراهين أنه الدين الحق ورسوله  " صلى الله عليه وسلم"  هو الرسول الخاتم.

تعظيم مشاركة المرأة

قد يعتقد بعض الناس خطأ، أو ظلما وجحودا، أن الإسلام ظلم المرأة ومنعها كثيرا من حقوقها، ومنها حقها في المشاركة المجتمعية والعمل التطوعي، ولكن هذه كلها أكاذيب ودعاوى باطلة، نسجت في عقول أظلمها وأعياها الحقد على الإسلام، والجهل به كعقيدة ومنهج حياة.

وقد أكد الشيخ -رحمه الله- على أهمية مشاركة المرأة في خدمة قضايا الأمة والنهضة بها، انطلاقا من فهمه وفقهه لمكانة المرأة في الإسلام، فكانت زوجته، السيدة أم صهيب، رفيق دربه، وشريكه في عمله الخيري والدعوي.. اصطحبها معه، حالا ومرتحلا، في مجاهل أفريقيا وأدغالها، داعية إلى الإسلام، ومعلمة لبني جنسها من الأفريقيات، أصول الإسلام ومبادئه، عن طريق عقد دورات تعليمية، ودروس تثقيفية عن الإسلام وحضارته وتاريخه، بالإضافة إلى إعدادها فرق عمل نسوية لتواصل الدعوة والعمل الخيري فيما بعد.

العمل الخيري أداة للتنمية

أن تعطي المحتاج أو الفقير أموالا، أو طعاما، أو ملبسا، أو غير ذلك مما يحتاج إليه، فليس هذا هو الهدف الحقيقي للعمل الخيري، ولكن الأمر عكس ذلك تماما، فهدف العمل الخيري هو القضاء على كل ما يعوق الأفراد ويمنعهم من المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعاتهم وخدمة أمتهم، وهذا هو جوهر العمل الخيري في الإسلام، والذي ارتكن إليه الدكتور عبدالرحمن السميط في عمله التطوعي، وهو ما يطلق عليه في أدبيات العمل الخيري حاليا «الأبعاد التنموية للعمل الخيري». لم يهدف الشيخ إلى إعطاء الفقراء مسكنات تستمر فترة، ثم ما تلبث مشكلاتهم أن تعود، ومن ثم يمدون أيديهم من جديد، ويبحثون عمن يقضي حاجاتهم، بل كان يعتمد على إقامة مشروعات تتناسب مع البيئة التي يعمل بها من جهة، ومن جهة أخرى تتناسب مع قدرات طالبي المساعدة. ولهذا لم يكن الشيخ السميط يعتمد في مساعداته للفقراء على العطاء النقدي، أو العيني، وإنما كان يدرس حالة طالب المساعدة تفصيليا، ثم يقيم مشروعا يدر عليه دخلا، ويكفيه ذل المسألة، مثل: «الورش الصغيرة، محلات البقالة أو الملابس، المزارع السمكية، مشاغل الحياكة».

وهذا التوجه كانت له آثار اجتماعية ودعوية، تتمثل في القضاء على الفقر وآثاره، ودعم الاقتصاد المحلي للقبيلة، وهذا ما لم تقم به البعثات التنصيرية، التي كانت تعتمد دوما على ربط المحتاج بها أسبوعيا، حيث تصرف المساعدات بحضور القداس والصلاة في الكنيسة. ولا شك في أن هذا التوجه التنموي كان له أكبر الأثر في تعميق الإسلام في النفوس، وبيان اختلافه عن الملل الأخرى، وتقبل دعوة الشيخ السميط للدخول فيه.

الشفافية ودقة المحاسبة

من المبادئ المعمول بها في قطاع المنظمات الخيرية غير الربحية مبدأ «الشفافية ودقة المحاسبة»، وهو ما كان يطبقه الشيخ انطلاقا من أصوله الإسلامية، حيث إن المسلم مسؤول أمام ربه عما ولي عليه من أمور الناس «كلكم رع وكلكم مسؤول عن رعيته» (2) كما جاء في حديث النبي  " صلى الله عليه وسلم" . وكان يدرك ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعظم الأمانة التي يحملها، لذلك كان حريصا على دقة المحاسبة المالية، وأن يوضع كل درهم في موضعه، وأشد ما يؤرقه ألا يكون الانفاق في غير محله. لذا كان يشرف بنفسه ويتابع دقائق الأمور في مشاريعه الخيرية ويتفقدها بنفسه ليطمئن قلبه على حسن سيرها.

ومما يؤثر عن الشيخ السميط قوله «أموال الناس التي دفعوها لعمل الخير لا يمكن أن أفرط في ريال واحد منها».

وهذه الدقة المحاسبية والشفافية في عمل الشيخ أفضت إلى نتيجة متوقعة، وهي ثقة الممولين والمتبرعين، وإيثارهم مؤسسة الشيخ وما تقوم به من مشاريع عن غيرها، لأنهم يرون ثمرة تبرعاتهم في مشاريع قائمة تغطي كل مجالات الحياة تقريبا، وفي مقدمتها خدمة الإسلام ونشره.

إنسانية العمل الخيري

يؤكد الإسلام على مبادئ الرحمة، والشفقة، ومساعدة المحتاجين، وتفريج كربات المكروبين، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون. وتظهر تطبيقات هذه المبادئ وغيرها من الخصائص الإنسانية، في ممارسة العمل الخيري، ولعل هذا الجانب لا يحتاج إلى تدليل عليه في منهجية العمل الخيري عند الشيخ السميط، فكل أعماله الخيرية كان هدفها الإنسان فقط.

ولكني أتوقف عند موقف يحمل دلالات عظيمة، في تجرد الشيخ السميط وسعيه لخدمة المحتاجين، حتى ولو كانوا ممن آذوه، وأساءوا إليه في فترة من الفترات، فمعروف أن الشيخ السميط اعتقل أثناء الغزو العراقي للكويت عام 1990، ونقل إلى سجون بغداد، ولاقى هناك أشد أنواع العذاب والتنكيل، لدرجة نزع لحم وجهه ورجليه، ورغم تجربة اعتقاله المريرة هذه، إلا أنها لم تكن حائلا بينه وبين مد يد العون لإخوانه العراقيين ونجدتهم مما ألم بهم بعد غزو قوات التحالف الأنجلو أمريكية، وسقوط النظام العراقي، حيث أعد قافلة إغاثية لتقديم مساعدات عاجلة للشعب العراقي لتخفيف آثار الحرب.

لقد كانت إنسانية العمل الخيري معلما واضحا في عمل الدكتور عبدالرحمن السميط.. فضح أدعياء الإنسانية والمتاجرين بها، وكشف عن زيف دعاويهم، خصوصا في أفريقيا، التي أسلم كثير من أبنائها على يديه، بسبب هذه السلوكيات التي أعلت من قيمة الإنسان كإنسان. وهذه الظاهرة استرعت انتباه أحد القساوسة المنصرين، كما يروي الشيخ نفسه فيقول: «جاءني قسيس كاثوليكي أوروبي وقال لي: أنا وأبي ولدنا هنا، وقد جاء جدي إلى هنا منذ مئة عام تقريبا. وهدفنا التنصير، ولكن لم يتنصر إلا أعداد قليلة، بينما أنتم أمضيتم هنا بضعة أيام وأسلم على يديكم المئات».

مأسسة العمل الخيري

إدراكا منه لحجم العمل المطلوب لمقابلة حاجات الأمة ومواجهة مشكلاتها، ومساعدتها في الرقي والتقدم، انتقل الدكتور عبدالرحمن السميط من مرحلة العمل الفردي إلى مرحلة العمل المؤسسي، الذي يعتمد على جماعية الأداء، والشورى عند اتخاذ القرارات، والارتكان إلى القواعد الشرعية والأسس العلمية المعمول بها في هذا المجال. ونذكر في هذا الصدد أنه أسس «لجنة مسلمي أفريقيا» عام 1981، والتي تحولت فيما بعد (1999) إلى «جمعية العون المباشر»، علاوة على عضويته في كثير من الهيئات والمراكز والجمعيات العاملة في مجال الإغاثة والعمل الخيري.

هذه هي أهم ملامح المنهجية في العمل الخيري عند الدكتور عبدالرحمن السميط -رحمه الله- تقصيناها رغم عدم وجود مراجع علمية موثقة لجهوده. وهذا الجانب يتطلب بذل كثير من الجهود من المهتمين بالعمل الخيري، ولعل جمعية العون المباشر تتبنى مثل هذه الأعمال مستقبلا.

هوامش

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) جزء من حديث - رواه البخاري.

كما تم الرجوع إلى مواقع

http://direct-aid.org/cms/ http://ar.wikipedia.org/wiki

21143.psd

25654252

أحمد أمين :

يحفل تاريخنا الإسلامي بسير العظماء والقادة الذين تركوا بصمتهم واضحة على ما قدموه إلى الإسلام والمسلمين. لكن كثيرا من هؤلاء العظماء أصبحوا شخصيات حبيسة بطون الكتب؛ حيث ضن المؤرخون بذكرهم أو تناول سيرتهم العطرة، حتى استغل الغرب ذلك فقام بتشويه صور الكثير من شخصياتنا التاريخية، ولطخ تاريخها الناصع البياض.

فأردنا أن نزيح بعض الغبار عن سيرتهم وكفاحهم؛ لتستلهم الأجيال القادمة بطولاتهم وصولاتهم، ولتكون نبراسا لنا في طريق المجد والصعود نحو قيادة العالم مرة أخرى كما قاده هؤلاء المجاهدون.

من هذه الشخصيات أمير البحار المجاهد خير الدين بربروس ، أبرع من ركب البحر، وقاد السفن، وخاض المعارك الحربية البحرية، وفتح للمسلمين بلادا عديدة، وحرر كثيرا من البلاد المحتلة، ووجه ضرباته القوية المؤلمة إلى أعداء الإسلام، فكسر شوكتهم، وهزم جيوشهم، وذاع صيته في أوروبا كلها، وأطلق عليه الأوروبيون لقب: بربروس ، وهو يعني: ذو اللحية الحمراء.

وبلغ من شدة خوفهم وهلعهم منه أنهم كانوا يدعون في صلواتهم:

بربروس بربروس

أنت صاحب كل شر

ما كان من ألم أو عمل

مؤذ وجهنمي مدمر

إلا والــســـبب فـــــيه

هذا القرصان الذي

لا نظير له في العالم (1)

ومن أجل تشويه صورته قام الغرب بإنتاج سلسلة أفلام ضخمة حملت اسم: قراصنة الكاريبي، وصور فيها المجاهد خير الدين بصورة وحشية ودموية، ووصفه بالخسة والنذالة؛ محاولا أن ينال من ذلك القائد العظيم الذي أذل قادتهم، وهزم جيوشهم، حتى إن كارلوس الخامس ملك إسبانيا كان يصرخ في قواده قائلا:

«لقد جعلتموني مسخرة بين الملوك، فليس فيكم من يستطيع التصدي لبربروس» (2(

الاسم والمولد والنشأة

هو خضر بن يعقوب، الملقب بخير الدين، ولد عام 1472م في جزيرة لسبوس اليونانية، لأب من الانكشارية (3) ترك في أبنائه حب الجهاد، وأم أندلسية كان لها الفضل الكبير في اهتمام خير الدين وأخيه عروج بمسلمي الأندلس فيما بعد (4(

كان لبربروس ثلاثة أشقاء، هم: عروج، وإلياس، وإسحاق، شاركوه في جهاده البحري، وخاضوا معه المعارك، وقد استشهدوا جميعا في معارك حربية، بينما توفي هو في 4 يوليو 1546م في مدينة إسطنبول.

بداية الحركة الجهادية

عمل هو وإخوته في بداية حياتهم في التجارة البحرية، وعندما وجدوا فرسان القديس يوحنا (جزيرة رودس) عاثوا فسادا في سواحل المدن الإسلامية، وأن الإسبان احتلوا بعض المدن الإسلامية في المغرب العربي، اندفعوا إلى جهاد هؤلاء المعتدين بحريا.

كون خير الدين أسطوله البحري الصغير بمساعدة أخيه عروج، وبدأ رحلته الجهادية مهاجما بعض السفن الأوروبية الحربية، وأسر من فيها، ومبادلتهم بأسرى مسلمين.

وقد استعان خير الدين بالبحارة الأندلسيين الفارين من بطش محاكم التفتيش، واستفاد من مهارتهم العالية في صناعة السفن وقيادتها، وكانوا يشكلون جزءا كبيرا من طاقمه البحري.

وتوجه عروج وخير الدين نحو جزيرة جربة في تونس سنة 1504م، واتفقا مع أميرها أبي عبدالله محمد بن الحسن الحفصي (5) على أن يمنحهما ميناء حلق الوادي؛ ليجعلا منه قاعدة لهما مقابل أن يدفعا له خمس الغنائم التي يغنمانـها، فوافق الحفصي، وعقد معهما الاتفاق.

وبدأت هجمات الأخوين تزداد قوة وشراسة، وتدفق عليهما المجاهدون من كل صوب وحدب، وبدأ أسطولهما الحربي في النمو، وهاجما به الأساطيل الأوروبية، واستطاعا - رغم قلة عدتهما وعتادهما - إلحاق أضرار جسيمة بتلك الأساطيل، وهزيمتهم في العديد من المواقع، وأسر جنود منهم، ونصب أكمنة، ومحاصرتهم، ومنع وصول الإمدادات إلى القوات الغازية لشمال إفريقيا، مما جعل الأخوين مصدر خطر على أوروبا في ذلك الحين.

التحالف مع العثمانيين

بدأ عود أسطوله يشتد، فهاجم شواطئ جنوة والبندقية، وإسبانيا وإيطاليا، وأصبح وجوده مثيرا لفزع الدول الأوروبية. واستطاع الإخوان استعادة مدينة بجاية من الإسبان، وحماية الجزائر من هجماتهم، واتخاذها مقرا لهم.

وفي عام 1518 استشهد عروج، وتولى القيادة من بعده خير الدين، وأرسل إليه السلطان العثماني سليم الأول أسطولا بحريا، وعددا كبيرا من المدافع، و2000 جندي للعمل تحت إمرته، ومنحه رتبة بكلر بك، والتي تعني: القائد الأعلى للقوات الإسلامية في إقليمه، وأصبحت مدينة الجزائر تابعة للخلافة العثمانية، كأول مدينة في الشمال الإفريقي (6)

وكان انضمام بربروس إلى العثمانيين بمنزلة طعنة رهيبة لقوى الاستعمار الأوروبي، وأصبح خير الدين حجر عثرة في طريق طموحهم الاستعماري، لذلك قام ملك صقلية هيكو دي مينكادا في سنة 1519م بحملة ضد خير الدين لكنها باءت بالفشل؛ لصلابة خير الدين وقوته وتصديه الباسل لتلك الحملة (7)

وقد وجه خير الدين أسطوله نحو تونس وتلمسان وحررهما، وتمكن أيضا من طرد الإسبان نهائيا من قلعة البينيون، والتي كانوا قد احتلوها قبالة مدينة الجزائر، وكان ذلك عام 1530م (8)، حيث حاصر القلعة لمدة عشرين يوما، وقصفها بالمدافع حتى هدم أسوارها، واقتحمها مع جنده، وأسر قائد القلعة وكبار ضباطه.

ثم طلب منه السلطان سليمان القانوني فتح تونس، التي كان يحكمها مولاي حسن، آخر سلاطين بني حفص، وكان متعاونا مع الإمبراطور الأوروبي شارلكان (كارلوس الخامس)، وكان الشعب التونسي ناقما على ذلك الوضع، فتوجه خير الدين بأسطوله وفتح تونس (9)، وسط ترحيب كبير من سكانها. وحكمها باسم العثمانيين، وعينه السلطان سليمان القانوني قائدا عاما للأساطيل العثمانية.

بعد توالي انتصارات بربروس ، وفرض سيطرته على المتوسط والكاريبي، تداعى الأوروبيون للقضاء عليه، فتكون تحالف على رأسه البابا بفرسانه وإسبانيا وفرنسا والبندقية والبرتغال، وتم تجهيز أكثر من 600 سفينة حربية؛ بغرض إنهاء سيطرة بربروس على المتوسط والقضاء على دولته.

وكانت المعركة في خليج بروزة، 4 من جمادى الأولى 945هـ - 1538م؛ حيث التقت أساطيل التحالف الأوروبي بأساطيل خير الدين، المكونة من 122 سفينة، ودارت معركة حسمت لخير الدين، الذي فاجأ السفن الأوروبية بهجوم غير متوقع، فتفرقت سفنهم، وفقدت تشكيلاتها العسكرية، فوقعت فيهم الهزيمة، ووقع أكثر من 2000 جندي في الأسر، وغنم ما يربو على 36 سفينة حربية، وفرض خير الدين سيطرته وهيمنته كاملتين على البحر المتوسط (10)

نجدة مسلمي الأندلس

انتشرت هجمات خير الدين لتطول مدنا أوروبية ساحلية، إلا أن أعظم ما قام به كان إنقاذ كثير من مسلمي الأندلس من بطش محاكم التفتيش؛ حيث كان صريخ الموريسكيين يتوالى كل يوم طالبا النجدة والغوث مما تفعله بهم محاكم التفتيش.

فكان يتم الاتفاق سرا مع المسلمين أن يكونوا موجودين ليلا في أماكن محددة من شواطئ بلنسية؛ لتنقلهم سفن بربروس إلى مدينة الجزائر.

وقد ذكرت مصادر تاريخية أنه نقل أكثر من 70 ألف مسلم، حملهم في 7 رحلات بأسطول بحري مكون من أكثر من 30 سفينة.

ولم يكتف بذلك، بل هاجم سفن الأسطول الإسباني، وأسر جنودا منه؛ ليقايضهم بمسلمين أندلسيين (11)

وأصعب الرحلات التي تعرضت للمخاطر كانت عام 1529م، حين أرسل بعض المسلمين الموريسكيين رسالة إلى خير الدين ليقلهم إلى الجزائر، فأرسل خير الدين نائبيه ريس صالح وإيدين ريس، واستطاعا جمع أكثر من 600 موريسكي، لكن قبل مغادرة الميناء هجم عدد كبير من السفن الإسبانية، وتمت مطاردة رجال خير الدين حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار)، لكن فجأة انقلبت سفن المجاهدين من الدفاع إلى الهجوم، ودمرت عددا كبيرا من السفن الإسبانية، وغنمت بعضها، وعادت إلى مدينة الجزائر سالمة، حاملة معها الموريسكيين، وبعض أسرى الإسبان (12)

غزو فرنسا

أثناء الحرب الدائرة بين ملك فرنسا فرنسوا الأول والإمبراطور كارلوس (شارل الخامس) حول دوقية ميلان (شمال إيطاليا)، استنجد فرنسوا بالسلطان سليمان القانوني وطلب مساعدته، فأرسل السلطان سليمان حملة كبيرة على رأسها أمير البحار خير الدين، فغادر إسطنبول في 23 من صفر 950هـ 28 من مايو 1543م. وفي طريقه إلى فرنسا استولى خير الدين على مدينتي مسينة التابعة لصقلية، وريجيو الإيطالية من دون مقاومة، ثم استولى على ميناء أوستيا الإيطالي، حتى وصل إلى ميناء مارسيليا الفرنسي، ورفعت السفن الفرنسية الأعلام العثمانية احتفالا بقدوم خير الدين ورجاله، ونجح خير الدين في استعادة ميناء نيس الفرنسي من حاكمه الإسباني، وتسليمه إلى الملك الفرنسي (13)

ميناء طولون

كان لمساعدة العثمانيين للفرنسيين أثر كبير، فقام الفرنسيون بالتنازل عن ميناء طولون، وتسليمه إلى السلطان العثماني، وتحول الميناء إلى مركز للقوات البحرية الإسلامية، ومن خلاله قام العثمانيون باعتراض الأساطيل الإسبانية التي كانت تهدد المغرب العربي.

وخلال إدارة المسلمين للميناء أخلت الحكومة الفرنسية الثغر كله للمسلمين؛ ليتحول إلى مدينة إسلامية، وارتفع الأذان في جنبات المدينة (14)

صفاته وأخلاقه

كان خير الدين يمتاز بالقوة والدهاء والإقدام والشجاعة، وكان سخيا كريما محبا للفقراء والمساكين، كثير العطف عليهم، قوي الإيمان بالله، ذا صلابة في الجهاد وقناة لا تلين، إلى جانب تصميم وعزم لا يتطرق إليهما أي ضعف، ونظرة صائبة خاطفة، لا تكاد تخطئ التقدير ولا التدبير، وجرأة واندفاع لا يباليان بالصعوبات، ولا يحسبان حسابا للعقبات، ودقة في السياسة، وتدبير الملك، وعبقرية ترافقه ساعة الحرب وساعة السلم.

وصفه المؤرخ التونسي ابن المضياف: «خير الدين هذا من رجال الدنيا، بل والآخرة، فهو كما قال بعض الأدباء: خير الدين والدنيا» (15)

قاد خير الدين حروب الإيمان، وحقق فوزا عظيما، واتصف بالوفاء والإخلاص وإنكار الذات، والاستعداد الدائم للتضحية، والصدق، والشجاعة بكل أشكالها. ويحفظ لنا التاريخ رده على شارلكان عندما قال له: «يجب ألا تنسى أن الإسبان لم يخذلوا في معركة، وأنهم قتلوا أخويك إلياس وعروج، وإن تماديت فيما أنت عليه وركبت رأسك فإن عاقبتك ستكون كعاقبة أخويك».

فأجاب خير الدين: «سترى غدا، وإن غدا ليس ببعيد، أن جنودك ستتطاير أشلاؤهم، وأن مراكبك ستغرق، وأن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة» (16)

وعندما حاصر شارلكان (كارلوس الخامس) ملك إسبانيا الجزائر خرج له خير الدين ومعه حزم وعزم، وتلا على جميع قواده وجنوده قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7)، وتقدم إلى الميدان ومعه رجاله، وقال لهم: «إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق؛ لأن انتصاركم انتصار لهم، وإن سحقكم لهؤلاء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن الإسلام».

فصاحوا كلهم: «الله أكبر»، وهاجموا الإسبان فأبادوهم عن آخرهم (17)

وفاة بربروس

كانت حملة خير الدين بربروس على ميناء طولون هي آخر حملة، فلم تطل به الحياة بعد عودته إلى إسطنبول؛ حيث توفي في 953هـ - 1547م، تاركا خلفه تاريخا عظيما سطره هو وإخوته بدمائهم الزكية التي سالت من أجل الدفاع عن راية التوحيد وحماية بلاد المسلمين.

الهوامش :

 (1) مجلة تاريخ وحضارة المغرب في كلية الآداب في الجزائر 1969م، العدد 6.

(2) مذكرات خير الدين بربروس، ترجمة د. محمد دراج، ص148.

(3)  الانكشارية: مقاتلون كانت تتم تربيتهم منذ الصغر على الجهاد والقتال في مدارس خاصة أعدها العثمانيون، تشبه المدارس الحربية حاليا.

 (4) انظر: أحمد توفيق مدني، حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا، ص15.

 (5) انظر: المصدر السابق، ص158.

 (6) تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد، ص231.

(7) انظر: حرب الثلاثمئة، ص206.

 (8) الدولة العثمانية لعلي الصلابي، ص214.

 (9) انظر: الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد، ص232.

(10) انظر: مذكرات خير الدين بربروس ، ترجمة د. محمد دراج، ص188-190.

 (11) دولة الإسلام في الأندلس نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، ص386.

(12) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(13)  انظر: خير الدين بربروس والجهاد في البحر لبسام العسيلي، ص165-166.

 (14) المصدر السابق نفسه.

 (15) حرب الثلاثمئة بين إسبانيا والجزائر، ص203.

 (16) خير الدين بربروس ، ص170-171.

(17) السابق.

hqdefault

لم يتوقف طويلا عند إعاقته.. فكان من أوائل قراء المملكة وذو نشاطات متعددة

واجه المرض بصبر ونقاء سريرة وامتثال لأمر الله حتى أسلم الروح إلى بارئها

القاهرة - محمد عبدالعزيز:

لا يماري أحد في أن مكة المكرمة والمدينة المنورة وعموم منطقة الحجاز أنجبت العديد من القراء المتميزين، الذين حملوا أمانة أقدس الكلم، كلام رب العالمين، وكما تميز قراء أرض الكنانة في تلاوتهم التي جذبت إليهم محبة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لا يماري أحد أيضا في أن للقراءة الحجازية مكانة متميزةوشيوخ حملوا الأمانة دون كلل أو سأم على الرغم من أن أبرز علماء هذه المدرسة كانوا كفيفي البصر وعلى رأسهم الشيخ عباس مقادمي رحمه الله، والشيخ محمد زكي داغستاني الذي يدور حديثنا عنه عبر هذه السطور.

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

تربية إبداعية لأبنائك.. كيف؟

رويدا محمد - كاتبة وباحثة تربوية: يعرف الإبداع بأنه النشاط الإنساني المختلف عن المألوف، والذي يؤدي ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال