قصة بقلم - فرحات جنيدي:

بالقرب من شجرة التين العامرة على نبع للماء العذب، جلست الأم تحت شمس الشتاء الدافئة تتأمل وجوه الناس، تحدث نفسها، لا شيء يفرحني فى الدنيا كرؤيتي للفرحة يوم العيد بعيون أبنائي، فللعيد حلاوة لا تقاوم، أبصرت عيناها طفلتها الصغيرة  يتلألأ النور فى وجهها ويصيب سهام عيناها المبتسمة قلوب المارة.

تضحك وترقص وتتطاير كالفراشة، تقبض بين يديها باقة من الزهور ينبعث منها عطرًا آخاذ، شكَل حولها إخوتها دائرة، ومن خلفهم شكلت دائرة أخرى من جيرانها، ومن خلفهم كانت دائرة ثالثة من المارة، مضى الجميع يصفق ويغنى لها وعيونهم معلقة نحو باقة الزهور وكل منهم يتمنى أن يحصل عليها أو على زهرة واحدة منها.

اخترق الدوائر الثلاثة رجل غريب أصلع الرأس ذو وجه أبيض مرقع ببقع زرقاء وعينان صفراوان، وفم أسود وأسنان حمراء وأنف أفطس، قصير القامة طويل الذراعين، كلما اخترق دائرة ترتسم علامات تعجب على الوجوه وتطرح علامات الاستفهام فهو مجهول للجميع، توقف التصفيق والغناء فتوقفت عن الرقص ونكست يداها بباقة الزهور.

ومضت  تنظر نحو إخوتها وأقاربها وجيرانها فى صمت، اقترب الغريب وأمسك بذراعها وجذبها على الأرض، صرخت وصمت الجميع ووقفوا كالتماثيل ينظرون إليها من أعلى، وأخذوا يهمهمون بكلام غير مفهوم، تزايدت صرخاتها من شدة قبضة الغريب على يدها فخرج نفر منهم ودافعوا عنها، غضب الغريب وفرد ذراعيه الطويلتين وضربهم فتراجعوا، صرخت الأم ونهضت من جلستها أسفل الشمس الدافئة وأسرعت نحو الغريب وألقت بجسدها عليه فخلصت يد الفتاة من قبضته لكن سرعان ما نهض الغريب وأخرج سكين وطعنها.

صرخت الأم تستغيث بأبنائها فلم يغثها أحد، نهضت تضمد جراحها وقلبها يعتصر على أبنائها الجبناء وابنتها التى أحكم الغريب قبضته عليها، وقبل أن تعود إلى جلستها أسفل الشمس نزع الغريب عن رأسها حجابها وأخذه وجفف به عرقه ومضى يضرب الطفلة  بشدة وهو يحاول أن يأخذ منها باقة الزهور، لكنها استماتت تقاومه وعيناها تنزف الدمع والدم على إخوتها الذين تركوها ومضوا يلهون مع أطفالهم، يرقص الرجل منهم ويهز مؤخرته ويغنى الشيوخ وتضرب الزمر والطبل النساء، بينما الشباب منهم ناموا على بطونهم وهم يأكلون ويصفقون للراقصين، ترغرغت عيناها فانفجر منها نهرين من الدموع انهمرا على وجنتيها بعد أن سقطت منها باقة الزهور وتبعثرت، فأسرع إخوتها وجيرانها حتى المارة وأخذ كل منهم زهرة، لكن الغريب أخذ الحظ الأوفر من الزهور، مضى الأطفال مع ذويهم وبقيت الطفلة وحيدة حزينة .

أخذت الطفلة تبحث  فى عقلها عن أسباب تركهم لها وعيناها تحكي على أوجاع وهى تنظر إلى أمها الجالسة أسفل الشمس الدافئة والتى يعلو من حولها أصوات الأطفال وهم يلهون وأصوات الأغانى المرحة تنبعث من المراكب الصغيرة التى هبطت على النبع العذب يوم ربح غابرة وظلت تتراقص فى أحضانه، ظلت الأم فى جلستها ولم تحركها أمطار الصيف وغيوم الخريف لم تراها عيناها والشتاء الساخن والرصاص المصبوب كان لها كلهو الأطفال فى حفل عرس، تزايد الألم فى قلب الأم فجمعت قوتها ونهضت وأسرعت نحو طفلتها ومدت ذراعيها تحتضنها، لكن الغريب وقف كالحائط بينهما ومنعها فصرخت فيه ألا يكفيك أنك فرقت إخوتها ومزقت ثوبها وأخذت باقة زهورها فهيا اتركها وارحل بما اغتنمت .

     ضحك الغريب وقال ساخرًا لا يكفينى باقة الزهور وفرقة إخوتها الجبناء وتركهم لها ما يكفينى هو أن تصبح هى لى أنا وحدى ملكى، ومن اليوم ستكون لي وغدًا سيكون هذا الشاطئ لى وحدى .

    صرخت الأم وطوقت رقبة الغريب بيديها حتى كاد أن يختنق، مد الغريب يده وأخرج حجابها وأعطاه لها وقال علينا أن نتفق فلا داع للعراك معك وأنتِ بدون أبنائك خذى حجابك وغطى رأسك العارية وعودى غدًا ومعك كل أبنائك وكما أخذتها من بينكم وأنتم مجتمعين خذوها منى مجتمعين.

أخذت الأم حجابها وغطت رأسها العارية وعادت إلى جلستها على نبع الماء العذب وصدى صرخات طفلتها فى أذنها جلست تنتظر الغد، غابت الشمس وحل الظلام  وجاء الغد ولم تشرق الشمس ، مر عليها وضحك ساخرًا فنكست رأسها، وهو يتبول فى النبع .

• النقود في التاريخ الإسلامي
• تعلم اللغة العربية عند أبناء ...
• "أبراج الكويت".. نحو قائمة التراث ...
• "القرقيعان".. حصاد الخيـر فـي شهر ...
• "بعدانية"