الأربعاء، 15 مايو 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي

مرزوق العمري يكتب: من أعلام الدعوة الإسلامية.. الشيخ عمر العرباوي

الجزائر – مرزوق العمري: قيض الله عز وجل لخدمة دينه والدعوة إليه رجالا تميزوا بما آتاهم الله ...


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

163 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

 dgr6w

مياسة النخلاني

قاصة يمنية

هبّت نسائم الليل الباردة، فأسرعَتْ نحو النافذة تغلقها قبل أن تستيقظ بناتها مذعورات، أوصدتها بإحكام؛ لكنها ظلت ساكنة لبعض الوقت تحدق في الظلام الخالي من أي ضوضاء في الأرض أو في السماء، وتنصت لأصوات الليل البهيمة.

«ماله الحلو سرحان».

همس زوجها في أذنها وربت على كتفيها بيد حانية، انتفضت كعصفور وقع فجأة في بركة ماء باردة، تلفتت حولها في ذعر لكن لا أحد سواها وبناتها النائمات بعمق، تحسست كتفيها موضع يديه بأصابع مرتعشة، جالت بعينيها مجددا في الغرفة، قبل أن تنهار على الأرض تبكي بصمت وحرقة، لماذا يحدث لها كل هذا وأين كان مختبئا لها كل هذا الألم، وكيف لها أن تتحمل وهي وحيدة وضعيفة.

تكورت على نفسها ودفنت رأسها بين ركبتيها، وراحت تهتز بتناغم كأن جسدها طفل صغير تهدهده كي يهدأ وينام، كان كل شيء يسير على ما يرام، وأكثر ما كان يؤرقها قبل أعوام قليلة هو الولد الذي يرفض أن يأتي ليفرح قلب زوجها ويؤنس بناتها.

عام يمر بعد عام، وبعد كل حمل وانتظار تأتي بنت جديدة حتى صرن أربعا، وبدأت تشفق على نفسها وزوجها من وقع المسؤولية التي بدأت تثقل، بدا لها حينها أنها كانت أكثر النساء بؤسا في هذا الوجود.

توقّفَتْ عن هدهدة نفسها وجالت ببصرها في غرفتها المظلمة، هزت رأسها بأسى، لم تكن بائسة حينها على الإطلاق؛ بل كانت سعيدة وكل شيء لديها: زوج حنون وبيت وأطفال، بنات كأقمار في السماء وهن جميلات ورائعات حتى دون أخ.

وفي غمضة عين، اهتزت الأرض من تحتها لتشعر بأنها تقف على رمال متحركة أو جرف مطل على بحر هائج.

تلاشى كل شيء ومات النبض في قلبها، ربما إلى الأبد، أو هكذا خُيّل إليها، وكأن قلبها صار أجوف، ومشاعرها ما عادت تجيد سوى فن البكاء والدموع والخوف. في البداية، يعود لها جسد زوجها مغسولا بدمائه، بعد أن دهسته سيارة مسرعة، رحل بعيدا.. حتى دون كلمة وداع؛ ليتركها وبناتها فريسة الخوف والدموع والشجن، عاجزة حتى عن توفير لقمة العيش لهن، تقتات وإياهن على إحسان الجيران والأقرباء، ومهددة بالطرد من بيتها لعدم قدرتها على دفع الإيجار!

عند هذه النقطة انقبض قلبها، وانسابت الدموع من عينيها، عبرات حارة تلسع وجنتيها، تحمل بين ملوحتها طوفان الوجع الساكن في أعماقها كلما طرحت على نفسها ذات السؤال الذي لا تجد له إجابة مهما حاولت البحث.

فأين يمكنها أن تذهب؟! وهل ستضطر للعيش عند الآخرين ضيفا ثقيلا تتجرع مرارة العجز والفاقة والاحتياج؟!

غطت فمها بيديها تمنع نفسها من الصراخ، بينما سقف وجدران البيت يطبقان على صدرها بقسوة..

«يا الله!»

همست بها بوجع وزحفت نحو بناتها تحتضنهن وتغسلهن بدموعها وآهاتها، لتكتنفها ظلمة المساء جسدا ناحلا يهتز وهو يضم الأجساد الصغيرة بقوة خائرة.

«وحِّدي الله» قالها زوجها وهو يحاول سحب ابنته من بين يديها، وأكمل وهو يقول: «أفلتي ابنتي، ستخنقينها بحماقتك» وحاول جهده لينتزع الصغيرة من يديها.

«لا إلا بناتي، لا تأخذهن مني، لم يعد لدي سواهن، اتركها، لا تأخذها معك»، صاحت متشبثة برقبة بنتها بكل قوتها.

«حليمة هاتي البنت» قالها بصرامة وهو يسحب يدها من على رقبة الصغيرة ويهزها بقوة. «ماما أنا جائعة»، فتحت عينيها على صوت ابنتها وهي تهزها بيديها الصغيرتين، فركت عينيها وتلفتت حولها كان الصباح قد انبلج وهي لاتزال غارقة في نومها وكوابيسها، وبناتها حولها ينتظرنها أن تصحو لتعد لهن الإفطار.

لم تكد تمضي ساعات حتى سمعت طرقا عنيفا على الباب، وصوت صاحب البيت الأجش يدعوها لتفتح له الباب، لبست عبايتها على عجل وفتحت الباب بيدين مرتعشتين، فلا مال لها لتدفعه له، وهذا هو الشهر الثالث الذي يطالبها بالإيجار.

«تأخذي عفشك وتتركي البيت حالا ودون أي نقاش».. بادرها مهددا دون أي مقدمات.

«يا عم سعيد وين أروح أنا وبناتي، الله يحفظك والله بتبهذل بالشارع» همست متوسلة وهي تتشبث بالباب بيدين مرتعشتين.

«مللت هذا الكلام» قالها وهو يزيحها بعيدا عن الباب وأكمل مناديا على عماله «محمد، فتحي.. اجمعا أغراضها وارمياها في الشارع».

تجمع الجيران حولهم، حاولوا ثنيه عن قراره؛ لكن يبدو أنه لم يكن عنده استعداد للتراجع «إما أن تدفعوا أو تسكتوا»، صاح فيهم مزمجرا، وخلال دقائق بدأ البيت يخلو من العفش الذي أخذ بالتكوم على الرصيف.

«كم حسابك يا أستاذ» ارتفع صوت غريب من بين الجموع.

«ستين ألفا ما ينقصوا ريالا واحدا»، أجاب دون أن ينظر نحو مصدر الصوت، وتقدم شاب أنيق نحوه، أخرج من جيبه المال، وجمعه مع ما أعطاه إياه صديقه، وقبل أن يضعه بين يديه قال «خلي الشباب يرجعوا العفش للداخل وهذا حسابك كاملا مع إيجار شهر إضافي»، حدجه المدعو سعيد بنظرة استهجان، لكن لم يجد بدا من أن يأمر بإعادة العفش، وأخذ المال وذهب وهو يرمق حليمة بنظرات حاقدة؛ ليذهب هو الآخر رفقة صديقه دون أن يقولا كلمة.

حدث كل شيء بسرعة، وقبل أن تستوعب حليمة ما حدث كان الرجلان قد رحلا بعيدا دون أن يسمحا لها بتقديم الشكر لهما.

ساعدها الجيران بإدخال ما تبقى من بطاطين وفرش، عادت إلى الداخل ولاتزال غير قادرة على الحديث؛ لتنفجر أخيرا ببكاء طويل، هو مزيج من فرحة وحزن، أمل وألم، وأمام دموعها غير المفهومة تجمعت بناتها حولها ووجدن أنفسهن يشاركنها البكاء. هاهو أخيرا همٌّ ثقيل قد انزاح عن صدرها، ولو بشكل مؤقت، سيمر شهر إضافي قبل أن يعود صاحب البيت لطردها وبناتها، ثلاثون يوما تنعم خلالها بدفء هذه الجدران التي أصبحت تطبق على صدرها أكثر مما تدفئها.

احتاجت بعض الوقت حتى تستطيع لملمة شتات نفسها، وقامت لتعد الغداء لبناتها، غير مصدقة ما فعله الغريبان معها.

في المساء، طُرق بابها مجددا، وإن كان طرقا خفيفا هذه المرة؛ فتحته لتلتقي بذات الغريبين اللذين دفعا إيجار البيت ومعهما سيدة، بدت أنها والدة أحدهما، تحدث أحدهما وهو يطرق بصره للأرض: «أعتذر لإزعاجك في هذا الوقت، لكن سألتُ عن حالك من الجيران وقالوا إن زوجك متوفى، فوددت لو تعطيني بطاقتك كي نقدم لك في إحدى المنظمات كي يكون لديك دعم شهري تدفعين من خلاله الإيجار».

تلعثمت، ورغم أنها حاولت أن تصوغ كلمات من الشكر لكنها عجزت تماما، وكل ما فعلته أن هزت رأسها وذهبت لإحضار بطاقتها، ناولتها للسيدة التي كانت تقف على عتبة الباب بينما ابتعد الشابان كلاهما ولسانها لايزال معقودا من المفاجأة.

واسَتْها السيدة ببعض كلمات، قبل أن يختفوا جميعا في الزقاق المظلم، واختفت معها ابتسامة شاحبة كانت رسمتها على شفتيها. «لاتزال الدنيا بخير»، قالتها وهي تغلق باب بيتها. مرّ أسبوع دون أن يعود الرجل أو يعيد لها بطاقتها، راودتها بعض الشكوك، لكن طردتها أخيرا من رأسها، فأي شر يمكن أن يضمره لها وهو الذي ساعدها دون معرفة سابقة بها.

في منتصف الأسبوع الثاني فتحت الباب لتجدهما أمامها، ومعهما السيدة أيضا، مد لها أحدهما ظرفا وهو يسألها: «هل لديك القدرة على القراءة؟»

أومأت برأسها إيجابا، فسلماها الظرف وهو يقول: «افتحيه وستفهمين كل شيء»، ومضوا بذات السرعة التي أتوا بها.

عادت إلى الداخل وقلبها يخفق، لا تدري لذلك سببا. فتحت الظرف وهي تمنع يديها من الارتعاش، كانت رسالة بالداخل تقول: «أصبح البيت ملكا لك بموجب العقد المرفق، اشتريناه من صاحب البيت وسجلناه باسمك. أعتذرُ عن الكذبة الخاصة بالمنظمة، لكن أردنا أن يكون الأمر مفاجأة لك»، أخرجت العقد وقرأته وهي تشعر أن قلبها يكاد يمزق صدرها من الفرحة، لم تفرح هكذا منذ سنوات طويلة، قلبته وهي غير مستوعبة لكل هذا.

أحد عشر مليون ريال دفعت لأجل البيت؛ ليكون ملكها، كي لا يطردها أحد إلى الخارج. من هو ليفعل ذلك لها؟ ومن هما؟ ثم... ثم أصبح البيت ملكها. أطلقت صيحة فرح وهي تحتضن العقد.

ظلت ساعات كثيرة تقلبه بين يديها وتعيد قراءته، وكلما انشغلت بأمر ما عادت إليه لتتأكد أن كل ما حدث حقيقي وليس محض خيال أو أحد أحلام يقظتها، تودعه قبلة طويلة وتضعه بعناية في دولابها. في تلك الليلة ظلت النافذة مفتوحة يعبث ريح المساء بها مُحْدِثا طقطقة خفيفة، وظلت نوافذ المنازل الأخرى مظلمة والسماء دون نجوم والليل حالكا، لكنها نامت بعمق، تحتضن بناتها وابتسامة رضا لا تغادر شفتيها الناعستين.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال