✍ سماح بادبيان – كاتبة يمنية:

في جلسة عائلية جميلة في منزل جدتي زارتنا فيها الجارة التي تعمل ممرضة في مستشفى خاص في عدن… قصت لنا فيها هذه القصة التي حدثت في المستشفى قالت:

في حادث مؤسف صدمت سيارة أحد المغتربين رجلا عجوزا هرما .. وأصيب إصابات بالغة .. فأسعف صاحب السيارة العجوز إلى المشفى وتكفّل بكامل مصاريف علاجه .. فتقاطر أبناء العجوز وأقرباءه إلى المشفى .. وأجريت عملية للعجوز وعلاجات .. ولكن الرجل كان هرما شائبا فلم يتحسن كثيرا.. وجسده لا يحتمل عمليات أخرى .. وأخبر الأطباء أولاد العجوز بعد فترة طويلة من العلاج أن يأخذوا أباهم ويعتنوا به في المنزل فهو الآن لا يحتاج إلا إلى الراحة والعناية والحب والاهتمام.. ولكنهم رفضوا .. مُصرّين على بقاءه في غرفة خاصة في المشفى .. واستمروا يبتزون الرجل الذي صدمه بكثرة الطلبات بحجة علاج الأب ، وأخّروه عن سفره وعمله، حتى نصحه أناس كثيرون أن يسافر لعمله ويتركهم .. ولكن منعه حرصه على العجوز أن يسافر هكذا .. فترك لهم مبلغ 500.000 لعلاج العجوز .. تركها على شكل وقف في الكفتيريا والصيدلية وفي إدارة المشفى كإيجار للغرفة وسافر…!

تقول الممرض: صارت غرفة العجوز فندقا لأبناءه العابثين أو كمقهى يجتمعون فيه مع أصدقائهم ومعارفهم .. يأكلون ويشربون على الحساب المدفوع حتى انتهت الفلوس.. وفي اليوم التالي فوجئنا بغرفة العجوز فارغة من أي أحد .. فقد غادر كل أبناءه فجأة .. وتركوا أباهم وحده في المشفى دون رفيق!

قالت: كنا نتحرّق أسفا وحزنا على حال العجوز .. ونتصل بكل الأرقام التي معنا في ملف العجوز .. فلا يجيب منهم أحد…!!

شهران كاملان .. لم يُطل فيهما أحد الأبناء لتفقد الأب العجوز .. طريح فراش المرض بلا حول ولا قوة!! فكنا نحن الممرضات نتفقده دائما .. لندق له الإبر ونركب له المغذيات .. وهو غير قادر على الكلام والحركة .. فلا نرى إلا خيطا دائما من الدموع ينساب من عينيه .. فنمسحها…

وتسامع زوار المشفى .. والمرضى في الغرف الأخرى بقصة العجوز .. فتبرّع له الكثيرون وكل من سمع حكايته ترك له مبلغا في الصيدلية للعلاجات أو دفع أجرة الغرفة الخاصة لشهر وهكذا…. صار للعجوز أبناء كثر من كل المستويات العمرية يدفعون عنه ويتفقدونه… حتى زار مرة أحد التجار المشفى مع قريب له فسمع بقصة العجوز الذي تخلى عنه أبناءه .. فرق لحاله وتألم لما أصابه، فدفع مبلغ مليون ريال لصالح العجوز .. وتركها كوقف في الصيدلية والكفتيريا وللغرفة .. . ولم تمض أيام إلا وأولاد العجوز كلهم في غرفته .. لا أعلم من أين سمعوا بقصة المبلغ فقدموا جميعا… ليحيلوا غرفته إلى فندقهم الخاص مجددا مبددين ما أمكنهم من المال المتبرع به لصالح العجوز المريض .. في صورة من أبشع صور العقوق والأنانية وحب الذات!

وعاتبهم الاطباء، ومدير المشفى، فتعذروا بوفاة أحد أهلهم وانشغالهم بالعزاء!!!!!

قالت الممرضة: وما أن انتهى المبلغ حتى اختفوا من جديد .. وتركوا العجوز خلفهم .. فلا هم أخذوه ليعتنوا به في المنزل كما نصح الأطباء .. ولا هم سهروا عليه في مشفاه!!

كنا نتعاقب على غرفة العجوز نمسح خيط دموعه المنسابة .. ونعطيه العلاجات .. وهو في حالة كالإغماء .. لا يتحدث ولا يتحرك .. فقط دموعه تتحدث بما يجيش في صدره من آهات وأنات !!

ومضت فترة على هذه الحال ولم يظهر الأبناء .. فقرر مدير المشفى الخاص نقل العجوز لدار العجزة لحاجته للغرفة !!

فكنا نتصل ونعيد الاتصال ..علّ أحد الأبناء يجيب .. فيأتي على الأقل ليتابع نقل أبيه إلى دار العجزة .. من دون أي فائدة ترجى لكل محاولتنا ..فلا أحد يرد!!!!

وبدأت إدارة المشفى ترتب نقل العجوز بنفسها ..

وفي اليوم الذي كان مقرر فيه أن ينقل العجوز .. دخلت لتفقده .. وألقي نظرة أخيرة عليه .. فوجدته قد فارق الحياة .. وعلى خده خيط من الدمع يسيل !!!!

                           

 

 

• النقود في التاريخ الإسلامي
• تعلم اللغة العربية عند أبناء ...
• "أبراج الكويت".. نحو قائمة التراث ...
• "القرقيعان".. حصاد الخيـر فـي شهر ...
• "بعدانية"