د. خالد برادة باحث في الدراسات الإسلامية:

من المعلوم الذي لا يجهل أن للعبادة دورا مهما في السمو بالمؤمن إلى مدارج الرقي الإنساني؛ فضلا عن أنها صمام الأمان من الاحتواء في العقائد الفاسدة، والتأثر بالأفكار المضللة، ومن ثم حرص الإسلام على تأصيل العقيدة في النفوس؛ مع فرض التكاليف الشرعية.

وقد كان التشريع الإلهي من أهم صور المنح الإلهية للإنسان، الدالة على تكريمه من لدن خالقه في أحسن تقويم، وجعله خليفة في الأرض.

وقد كان الحج فريضة العمر، وختام الأمر، وهو عبادة بدنية وروحية معا، يعيشها المسلم بكل كيانه في رحاب بيت الله الطاهر، ينهل من بحار النور، ويغرف من النبع الطهور، قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج:27-28). وما أكثر تلك المنافع التي يشهدها حجاج بيت الله الحرام، وأهم تلك المنافع التي ينبغي التنبه إليها تحقيق الوحدة الإسلامية الجامعة.

وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعلم الحجاج أداء مناسك الحج على النحو السديد، بيد أنه لم يقتصر على ذلك؛ بل مزج تعليم المناسك بحرصه على أن يعلمهم التطبيق العملي لمكارم الأخلاق في الحج (لتنداح مكارم الأخلاق على الأمة جميعا) ، حيث حرص على أن يكون وفود الحجيج على قلب رجل واحد؛ وهم يعبدون ربا واحدا، ويستقبلون قبلة واحدة؛ لتتوحد في الحياة غاياتهم وأهدافهم.

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل على إقالة النفوس من كبواتها، ويحرص على ألا تتبع الأنفس الهوى؛ وفي ذلك تحصين للذات المسلمة من مغبة الوقوع في براثن الآثام؛ فتصبح النفس بعد خوضها رحلة الحج مشبعة بتقوى ربها، داعية إلى الهدى، متجنبة مواطن الزلل.

وقد استل الرسول صلى الله عليه وسلم من النفوس غلواءها، وقدم لها دواءها؛ فأعلن حرمة الدماء، والأموال، والأعراض، لتضمن الأمة حياة بعيدة عن الفتنة والقتال. وحري بمن عاش في كنف الله تعالى، يتنفس أريج الإيمان من مهبط الوحي، على ثرى حرم الله الآمن، الذي يرتقي بزواره إلى الثريا، أن يعود من حج البيت معلنا انتصار روحه على جسده، مؤثرا خدمة الناس ونفعهم على هوى نفسه، وبذلك يحافظ على ما تدرب عليه في الحج من مجاهدة النفس، وتزكيتها؛ فيصير دائم الإقبال على مولاه، زاهدا في بهرج الحياة الدنيا ومتاعها الزائل.

وإذا كان الحج ولادة جديدة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري)، فإن هذه الولادة لا تقتصر على من حج بيت الله الحرام وحده، بل تشمل الولادة الجديدة الأمة كلها، لأن المهمة المنوطة بكل حاج بعد عودته من أداء المناسك أن يحمل مشعل الدعوة إلى الله تعالى، فيضطلع بهذا الشرف كل مسلم، خصوصا من أدى مناسك الحج، فيكون آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ومن هنا يعيش المجتمع الإسلامي في بلهنية من العيش، فتسري في أوصاله روح المحبة، وتأخذ الأمة طريقها إلى التجديد الشامل، ومن ثم إلى الريادة على الأمم كما كانت في سالف عهدها، قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران:110).

ولا مراء في أن لفريضة الحج دورا بالغا في البناء المتين للصرح الحضاري، وبث روح الأخوة الإيمانية في المجتمع، التي تجعله متماسكا بأقوى الوشائج؛ بعيدا عن العصبيات والقوميات.

وإنه لابد للأمة أن تعي أهمية مؤتمر الحج، وتجعله انطلاقة لا مندوحة عنها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها، وذلك بالتحول الإيجابي من التفرقة والخلاف، إلى الوحدة والائتلاف.

وليعلم المسلمون أن الحج يعود بوحدته، فمتى يعودون إلى وحدتهم، التي يستمدون منها قوتهم؟

 

• البركة مع أكابركم
• التوبة والوقاية
• القدوة.. منهج إسلامي قويم
• جواب الفقيه الباجي على راهب فرنسا
• زوجتك نفسي على الإنترنت