✍ د. ناجي عبدالله الخرص - إمام وخطيب – الكويت:

الحمد لله الذي اصطفى من ينابيع جوده نبع بدائعه محمدا أكمل الخلق روحا وعقلا، وأعلاهم قدرا وذكرا، وأرفعهم فضلا ونبلا، وأشرفهم مجدا وعزا وأحسنهم خلقا، وأصدقهم قولا وفعلا، وأهداهم طريقا وهديا صلى الله عليه وسلم. يقول في وصفه الإمام الماوردي رحمه الله، إن كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم تتمثل في ست خصال؛ الأولى رجاحة عقله وصدق فراسته، والثانية ثباته في الشدائد، والثالثة زهده في الدنيا، والرابعة تواضعه للناس، والخامسة حلمه ووقاره، والسادسة حفظه للعهد. فهذه ست خصال تكاملت في خلقه، فضّله الله تعالى بها على جميع خلقه.

أما أولى خصاله وهي رجاحة عقله وصدق فراسته، فيدل على وفورها فيه خمسة أدلة؛ هي صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه للناس، وأنه ما استغفل في مكيدة ولا استعجز في شديدة. يقول وهب بن منبه رحمه الله: قرأت في واحد وسبعين كتابا فوجدت في جميعها أن الله تبارك وتعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمقدار حبة رمل، وسنورد لكم بالأمثلة ما يظهر من رجاحة عقله وصدق فراسته صلى الله عليه وسلم.

المثال الأول يتعلق بشأن الأمة «صلح الحديبية»، والمثال الثاني يتعلق بشأن الأفراد «عسى أن يكون نزعه عرق»، والمثال الثالث يتعلق بتعامله مع أهله «كلوا، غارت أمكم» في المثال الأول، أي ما يتعلق بشأن الأمة بصلح الحديبية، فإن ما قبله الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء التفاوض يوم الحديبية من تنازلات هامشية في سبيل تحقيق مصالح ذات أثر أكبر؛ يدل على ذكائه وبصيرته واهتمامه بالجوهر والمعنى دون الشكليات والظواهر.

فقد جاء في صحيح مسلم أن قريشًا صالحت النبي صلى الله عليه وسلم وفوضت سهيل ابن عمرو في شأن هذا الصلح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، رضي الله عنه، وهو يدون بنود المصالحة: اكتب بسم الله الرحمن الله الرحيم، فقال سهيل عن هذا الاستهلال: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. ثم قال رسول الله: اكتب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك محمد بن عبدالله، ثم اشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منهم للنبي يرده إليهم، ومن جاءهم من عند النبي لا يردوه إليه، فقال الصحابة: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم، فأبعده الله، ومن جاءنا منهم، سيجعل الله له فرجا ومخرجا.

فوائد صلح الحديبية

كان للصلح فوائد عدة؛ فترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وكتابة باسمك اللهم، لا تضر؛ لأن المعنى واحد. كما أن ترك كتابة محمد رسول الله، وكتابة محمد بن عبدالله، لا تنفي عنه وصفه بالرسالة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. وهذه رواية البخاري، إن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول تغيير بعض الكلمات؛ يضع معيارا قياس الأهداف والموازنة بينها، ومن ضمن هذه المعايير أن المصلحة مقدمة على الشكل، وأن المصلحة ذات الامتداد الزماني والمكاني مقدمة على المصلحة الآنية.

ثاني هذه الفوائد؛ والمرتبطة بشرط من جاء منهم، وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والحكمة منه، فقال: من ذهب منا إليهم فقد أبعده الله، ومن جاءنا منهم، سيجعل الله له فرجا ومخرجا. وثالث الفوائد؛ هو عزل قريش عن نجدة حلفائها من أعداء المسلمين، ومن هنا سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر بعد صلح الحديبية، وأنهى آخر معقل من معاقل اليهود في الجزيرة العربية كان يهدد الدولة في المدينة. رابعها؛ اعتراف قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، وأما الخامسة؛ فإنها قد أدخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين حتى تيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، فدخل في الإسلام صناديد قريش كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. والسادسة؛ أنها أعطت الفرصة لنشر الإسلام، يقول في ذلك ابن هشام، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف»، وهذا يدل على أن الدعوة تنتشر في السلم والأمان. سابعا؛ مكّن عقد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيز الصحابة لغزوة مؤتة، وهذه خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية. ثامنا؛ ساعد عقد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم، على بعث رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام. تاسعا؛ كان صلح الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة؛ ولهذا فتحت مكة دون حرب أو قتال. عاشرا؛ في صلح الحديبية بيان واضح أن حرية الرأي مكفولة في المجتمع المسلم، حيث إن بعض الصحابة، رضي الله عنهم، راجع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الشروط، منهم عمر ابن الخطاب وسيد الأوس أسيد بن حضير وسيد الخزرج سعد بن عبادة، وقد استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم دون تهديد أو تخويف أو تعذيب أو إلغاء، حتى يبين لهم أن الإسلام يحترم الرأي المخالف وإن حاد عن جادة الصواب.

تعامله مع الأفراد

في المثال الثاني نعرض لطريقة تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأفراد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود -وهو يريد الانتفاء منه- فقال صلى الله عليه وسلم له: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمْر، فقال له: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى كان ذلك؟، قال: أراه عرقٌ نزعه، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق، ولم يرخص له في الانتفاء منه» متفق عليه فهذا رجل ولدت زوجته غلام أسود فخشي أن يكون هذا الولد ليس منه، فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاوره وأقنعه، فاقتنع الرجل ورجع إلى أهله راضيًا مرضيًا. ويدل الحديث على شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الأنساب واحتياطه لها ودفعه عنها كل شبهة، وأن الزوج لا يباح له الانتفاء من ولده لمجرد شبهة عرضت، كما أن في الحديث دليلا على صحة القياس والاعتبار بالنظير، مستلهم من فراسة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومبلغ حكمته في مداواة الأمور.

تعامله مع أهله

في المثال الثالث نتعرض لبعد آخر يتعلق بأحد أفراد الأمة، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم، عند إحدى أمهات المؤمنين فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام مع خادم، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم فسقطت القصعة فانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجمع فيها الطعام، وجعل يقول: «غارت أمكم، كلوا. فأكلوا. فأمسك الخادم حتى جاءت التي هو في بيتها بقصعتها، فدفع القصعة الصحيحة إلى الخادم وترك المكسورة في بيت التي كسرتها» (1).

وفي رواية الترمذي، قال صلى الله عليه وسلم عن ذلك: طعام بطعام وإناء بإناء. وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: «إناء كإناء، وطعام كطعام» (2).

ونستنبط من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبها ولم يعنفها بكلمة جارحة، بل جعل يعتذر لها، ويبين أن الذي حملها على ما قامت به هو غيرتها، فقال: غارت أمكم. كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بحث عن الدوافع والأسباب؛ لأن الدافع له أثر كبير في تفسير الفعل. والدافع هنا لكلا المتخاصمين هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي ألا يكون الحب سببًا للإساءة إلى المحبوب، ولا يجزى الإحسان بالسيئة. فاعتذر صلى الله عليه وسلم لعائشة بقوله: «غارت أمكم» لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل بما يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا نقدر على دفعها. أيضا الحديث فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر عنها؛ لأنها في هذه الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. نقطة أخرى؛ أن أسلوبه صلى الله عليه وسلم في معالجة هذا الخلاف المتمثل بالهدوء، والتفهم لطبيعة المشكلة بل وتبرير موقفها هو الذي دفع عائشة رضي الله عنها للتراجع والندم على ما بدر منها بعد شعورها بالذنب. خامسا؛ هذا التعامل الراقي منه صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من إعطاء كل ذي حق حقه، ولهذا قضى بالضمان لأم سلمة عندما انكسر إناؤها.

وكما هو معلوم فقد أجمع شراح الحـــــديث أن التــــي كـــان في بـيتها أم المؤمنين عائشة، وأن أم المؤمــــنين أم سلمة هي من أرسلت الطعام.

الهوامش

1- فتح الباري، ج 6، ص60 4.

2- فتح الباري، ج 11، ص 678.

• البركة مع أكابركم
• التوبة والوقاية
• القدوة.. منهج إسلامي قويم
• جواب الفقيه الباجي على راهب فرنسا
• زوجتك نفسي على الإنترنت