✍ د. عمرو الكمار - أستاذ الحديث – جامعة القاهرة مصر:

التجسس لغة: تتبع الأخبار. ومنه الجاسوس؛ لأنه يتتبع الأخبار. والتجسس على المسلمين بأن تتبع أخبارهم للبحث عن عيوبهم أو للاطلاع على أخبارهم وأحوالهم من الأمور ظاهرة الحرمة، فهو سوء ظن بالمسلمين وتتبع لعوراتهم، وهي كلها أمور محرمة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات:12).

قال ابن حجر الهيتمي: ففي الآية النهي الأكيد عن البحث عن أمور الناس المستورة وتتبع عوراتهم. وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» (١).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» (٢).

ومن زعم أنه يتجسس لمنع العاصي وصاحب المنكر من خطيئته، فلا يجوز له التجسس عليه بمجرد الشك، لأن الأصل أن يحمل المسلمون على البراءة من الذنوب والمخالفات حتى يتبين خلاف ذلك، وحتى لو ظهرت له قرائن أو أمارات على المعصية، فلا يجوز له التجسس إلا إن خشي وقوع حرمة أو ضياع حق.

قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستمرار فيه بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل، جاز التجسس عليه والإقدام على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الريبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه (انتهى).

ومن العجب ممن يسوغ التجسس على المسلمين وتتبع عوراتهم بدعوى الإقدام على الزواج، وأن مراقبة المخطوبة والتجسس عليها يجوزان لهذا الغرض، فهذا من تلبيس الشيطان، وهو غلط بيّن؛ ففي شرعنا أن الغاية لا تبرر الوسيلة.

ولقد شرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم من الوسائل المشروعة ما نعرف به صلاح المخطوبة من فسادها دون تجسس، فأرشدنا إلى الصلاح الظاهري دون البواطن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك» (٣).

فوجه رسول الله إلى ذات الدين، وهي من عرفت بالتدين الظاهري وإلا فلا سبيل لمعرفة البواطن، وجملة «ذات الدين» كذلك تشير من بعيد إلى صلاح أسرتها، فكأن المعنى امرأة صالحة من أسرة صالحة. وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة ليستبين من وجهها ما يدعوه إلى نكاحها، ففي مسند البزار عن أنس، أن المغيرة أراد أن يتزوج امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما» (٤).

وعليه فلا تجوز استباحة المحرم بمجرد الشك أو الرغبة في التأكد، كما يزعم القائل بالجواز، فلقد قبل رسول الله الظاهر فيما هو أشد من ذلك، قبله في الإيمان ولم يأمر بالتفتيش عن الخلوات وما خفي عن أعين الناس من أحوال، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» (٥) أي: إني أمرت بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي حديث أسامة بن زيد في سرية جهينة قال صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن قلبه» (٦).

أما إذا كان التجسس على المجرمين واللصوص وقطاع الطرق وما أشبههم، فإنه يجوز للمصلحة العامة وبكون هذا من جهة أولي الأمر وحدهم، ولأن المجرمين باعتيادهم الإجرام أزالوا عن أنفسهم حرمة الغيبة وحرمة تتبع أقوالهم وأفعالهم.

قال ابن الماجشون: «اللصوص وقطاع الطريق أرى أن يطلبوا في مظانهم، ويعان عليهم حتى يقتلوا أو ينفوا من الأرض بالهرب. وطلبهم لا يكون إلا بالتجسس عليهم وتتبع أخبارهم».

كذلك يباح التجسس في الحرب من المسلمين على عدوهم من الكفار المحاربين، وبعث الجواسيس لتعرف أخبار الكفار وجيوشهم، وعددهم وعتادهم وما إلى ذلك. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى معسكر المشركين ليلا في غزوة الأحزاب ليستبين حالهم وما هموا به من أمر.

الهوامش

١- رواه أبو داود ،برقم: (٤٨٨٠).

٢- رواه البخاري، برقم: (٥١٤٣).

3- رواه البخاري، برقم: (٥٠٩٠).

٤- رواه ابن حبان، برقم: (٤٠٤٣).

٥- رواه مسلم، برقم: (١٠٦٤).

٦- رواه مسلم، برقم: (٩٦).

 

• البركة مع أكابركم
• التوبة والوقاية
• القدوة.. منهج إسلامي قويم
• جواب الفقيه الباجي على راهب فرنسا
• زوجتك نفسي على الإنترنت