القاهرة - محمد عبدالعزيز يونس:

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. السلام عليكم ورحمة الله" بهذه العبارة التي نرددها في ختام كل صلاة، ختم الشيخ محمود خليل الحصري حياته، كان ذلك عشية يوم الاثنين الرابع والعشرين من نوفمبر لعام 1980، فور انتهائه من صلاة العشاء، ليختم بذلك حياة حافلة تجاوزت 63 عاما، قضاها خادما لآيات الذكر الحكيم.. وما بين الميلاد والوفاة رحلة طويلة من العطاء، نتعرف إليها في السطور التالية.

شبرا النملة، قرية صغيرة من أعمال مركز طنطا بمحافظة الغربية شمال مصر، تتمتع بنقاء مثالي وحالة روحانية فريدة اشتهر بها الريف المصري، الذي يحرص أبناؤه على حفظ القرآن الكريم منذ أن تتفتح أعينهم للحياة، من هنا كانت البداية، ففي صباح غرة ذي الحجة لعام 1335 هجرية، الموافق للسابع عشر من سبتمبر لعام 1917، ولد الشيخ محمود خليل الحصري.

لم يكن تجاوز الرابعة من عمره، حينما ألحقه أبوه بكتَّاب القرية لتعلم القرآن الكريم، فكان يحفظ القرآن سماعي ثم يكتب ما حفظه على اللوح بعد أن تعلم الحروف الأبجدية، فلم يتجاوز الثامنة من عمره إلا وقد أتم حفظ القرآن الكريم كاملا، ولأن المعاهد الدينية التابعة للأزهر الشريف لم تكن تسمح في ذلك الوقت بقبول الطلاب قبل أن يتموا الثانية عشرة من أعمارهم.

على الهواء

ظل "الحصري" مع شيخه ومحفظه بالكُتَّاب، فتعلم التجويد فكان يذهب إلى مسجد القرية في صلاة العصر ليقرأ ما يتيسر من آيات الذكر الحكيم، فنال استحسان مستمعيه، وفي ذلك الوقت أيضاً بدأت الناس تتعرف إليه.. وعند بلوغه الثانية عشر من عمره التحق بمعهد طنطا الأزهري، وظل يدرس حتى مرحلة الثانوية العامة ثم انقطع عن الدراسة بعد ذلك لتعلم القراءات العشر، وظل مقيماً بقريته حتى التحق بالإذاعة العام 1944م، وكان ترتيبه الأول بين المتقدمين لامتحان الإذاعة، وتم التعاقد معه في اليوم نفسه، فكانت أول قراءة له على الهواء مباشرة يوم السادس عشر من نوفمبر لعام 1944م.

وفي عام 1948م صدر قرار بتعيين "الحصري" مؤذناً لمسجد سيدي حمزة بمدينة طنطا، غير أنه طلب أن يكون قارئاً للقرآن، على الرغم من أن أجر المؤذن كان أكبر من الوظيفة الأخيرة، إذ أن حبه لقراءة القرآن وتلاوته كان أكبر من أي مال، فطلب أن يكون قارئاً بدلاً من وظيفة المؤذن، وكان له ذلك، حتى صدر قرار وزاري بقيامه بمهمة الإشراف الفني على مقارئ محافظة الغربية، ثم انتدب في 17\4\ 1949م للقراءة بمسجد أحمد البدوي بمدينة طنطا، وظل بالمسجد الأحمدي حتى العام 1955م، حين تم نقله إلى مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، فانتقل إلى العاصمة وأقام فيها حتى وفاته.

تقلد الحصري العديد من المناصب، منها: تعيينه شيخاً بعموم المقارئ المصرية العام 1960، ثم مستشاراً فنياً لشؤون القرآن بوزارة الأوقاف في العام 1963م، فرئيساً للجنة تصحيح المصاحف ومراجعتها بالأزهر العام 1963م، فخبيراً فنياً لعلوم القرآن والسنة العام 1967م بمجمع البحوث الإسلامية.

صوت منفرد

يعتبر "الحصري" أول من سجل المصحف الصوتي المرتل برواية حفص عن عاصم العام 1961م، وظلت إذاعة القرآن بمصر تقتصر على صوته منفردا نحو عشرة أعوام، ثم سجل رواية ورش عن نافع العام 1964، ثم رواية قالون والدوري العام 1968، وفي العام نفسه سجل المصحف المعلم، كما انتخب رئيسا لاتحاد قراء العالم الإسلامي، كما أنه أول من نادى بإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم، لترعى مصالحهم وتضمن لهم سبل عيش كريمة، ونادى بضرورة إنشاء مكاتب لتحفيظ القرآن في جميع المدن والقرى المصرية.

ولا يختلف اثنان على أن الشيخ محمد خليل الحصري أحد أبرز مرتلي القرآن الكريم في عالمنا الإسلامي المعاصر، عرف بأدائه المتميز في أرجاء العالم أجمع، وقرأ القرآن في جميع عواصم العالم سواء منها الإسلامي أم غير الإسلامي، فعلى سبيل المثال قرأ القرآن الكريم بالقصر الملكي بلندن، ومقر الأمم المتحدة في نيويورك، فضلا عن قاعة الكونجرس، كما لا يختلف أحد على أنه من أكثر قراء القرآن علما، مستفيضا بعلوم التفسير والحديث، كان يجيد القراءات العشر، ونال شهادة علمية فيها من الأزهر الشريف العام 1958، كما كان ملما بهذه القراءات علما وفهما وحفظا بجميع أسانيدها المأثورة.

مواجهة عقلانية

تمتاز قراءة "الحصري" بالعديد من المميزات، منها: متانة القراءة، رزانة الصوت، حسنالمخارج التي صقلها بالرياضة، الاهتمام بالوقف والابتداء، فضلا عن الإحساس اليقظ بعلوم التجويد التي تجعل من البيان القرآني سيمفونية بيانية تترجم المشاعر والأصوات فتحيل المفردات إلى كائنات حية، كذلك تأثره بالقرآن الكريم، حيث كان عاملا بما يعلم، فكان ذو ورع وتقوى، ما أكسب صوته رهبة ومخافة أثرت في أذان سامعيه.

يقول الشيخ محمود خليل الحصري في إحدى وثائق مركز الأهرام للمعلومات: "إن الترتيل يجسد المفردات تجسيدا حيا، ومن ثم يجسد المدلولات التي ترمى إليها المفردات، وإذا كنا عند الأداء التطريبي نشعر بنشوة آتية من الإشباع التطريبي، فإن الترتيل يضعنا في مواجهة النص القرآني مواجهة عقلانية محضة، تضع المستمع أمام شعور بالمسؤولية".

وإلى جانب تفرغه للقرآن الكريم طوال حياته، كان عالماً في علم القراءات العشر يعرف طرق روايتها وجميع أسانيدها، كما كان يحاضر في كثير من الجامعات المصرية والعربية والإسلامية ومراجعا لكتاب الله في الإذاعة مختبرا للقراء الجدد ومراجعا لكتابة المصحف، كذلك ظل شيخا لقراء العالم الإسلامي طيلة عشرين عاما، وعضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.

في البيت الأبيض

كما كان أول من ابتعث لزيارة المسلمين فيالهند وباكستان، وقراءة القرآن الكريم في المؤتمر الإسلامي الأول بالهند في حضورالرئيسين الهندي والمصري، وزعيمالمسلمين بالهند1960 م، وعين العام 1962م نائباً لرئيس لجنة مراجعة المصاحف وتصحيحها بالأزهر الشريف ثم رئيسا لها بعد ذلك.

في العام 1963م، تصدى لمحاولات تحريف المصحف الشريف، حينما أكتشف أثناء زيارته لدولة الكويت وجود مصاحف قام بتحريفها اليهود، كذلك جعله الله سببا لهداية عشرة فرنسيين لدين الإسلام حينما قام العام1965 م بزيارة فرنسا، بعد أن سمعوا كلمات الله أثناء تلاوتهللقرآن الكريم، كما اختاره اتحاد قراء العالمالإسلامي رئيسا لقراء العالم الإسلامي بمؤتمر "اقرأ" بكراتشي الباكستانية العام1966 م،بعد ذلك بعامين كان أول من سجل المصحف المرتل فيأنحاء العالم برواية قالون ورواية الدوري ورواية البصري.

وفي العام1969 م كان أول من سجل المصحف المعلم فيالعالم، كما كان أول من رتل القرآن الكريم بطريقة المصحف المفسر "مصحف الوعظ " العام1975م.

وخلافا لجولاته إلى جميع الدول العربية والإسلامية، سافر أيضا إلى روسيا والصين وسويسرا وكندا وأغلب عواصم العالم ليصدع بآيات الذكر الحكيم، دون أن يسعى إلى منصب أو شهرة، بل كان يشرفه أن يكون خادما للقرآن بإخلاص، ولعله القارئ الوحيد الذي قرأ القرآن الكريم في البيت الأبيض الأمريكي، بحضور الرئيس الأمريكيجيمي كارتر.

بصيرة نافذة

منّ الله على الشيخ الحصري ببصيرة نافذة في كثير من الأمور الخاصة بالعقيدة، فقد أحس بخطورة التبشير وحملات التنصير في أفريقيا، والتي بدأت تحرف في القرآن، فأراد أن يكون القرآن مسجلاً على شرائط كاسيت أو أسطوانات، فكانت رحلته مع تسجيل المصحف المرتل بعد أن رفض العديد من المشايخ والقراء الفكرة من بدايتها، وبذلك أصبح أول صوت يجمع القرآن الكريم مرتلاً على أسطوانات، وقد كتب لهذا التسجيل النجاح منقطع النظير، وقد منحه الرئيس عبدالناصر وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى العام 1967م تكريماً له لتسجيله المصحف المرتل، كذلك نال تقدير الملوك والرؤساء في العالم العربي والإسلامي.

قام - رحمه الله - بتأليف العديد من الكتب، وبذلك يعتبر أول قارئ يؤلف كتباً في القراءات المختلفة، تم ذلك بتشجيع من أستاذه الشيخ الضباع شيخ عموم المقاريء المصرية الأسبق الذي أوحى إليه بهذه الفكرة، لما رأى فيه من قدرة كبيرة على الصياغة والتأليف، وكان الشيخ الضباع يتابع ويراجع ما يكتبه الحصري الذي ألف بعض الكتب عن القراءات العشر، وكان يطبعها على نفقته ويوزعها مجاناً، حتى أنه أعطى هذه الكتب للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مجاناً، وكان المجلس يوزعها بسعر رمزي.

رحيل

في العام 1980م عاد "الحصري" من رحلته إلى المملكة العربية السعودية مريضاً، وقد زاد عناء السفر وإجهاده من مرضه حيث كان يعاني مرض القلب، إلا أن المرض اشتد عليه بعد ثلاثة أيام من عودته، ونصح الأطباء بضرورة نقله إلى معهد القلب إلا أنه رفض نصيحة الأطباء مرددا: الشافي هو الله، غير أن التدهور السريع في صحته استلزم نقله رغما عنه إلى معهد القلب، وقد تحسنت صحته فعاد إلى البيت مرة أخرى حتى ظن أنه شفي تماما، فانهمك في بناء مسجد ومعهد ديني ومدرسة لتحفيظ القرآن بمسقط رأسه قرية شبرا النملة، إلى أن فاجأه الأجل فور انتهائه من صلاة العشاء مساء الاثنين 16 المحرم لعام 1401 هجرية، الموافق 24/11/1980م، طيب الله ثراه.