bjbjbu

القاهرة – محمد عبدالعزيز يونس:

"ليست مهمة الصحفي ـ كما يظن الكثير من ممتهنيها ـ أن يكون آلة كهربائية تستقبل المُدخلات وتنتج المُخرجات، وفق سياسة مُلَّاكها سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، فالقضية أكبر من ذلك، فهمنة الصحافة من أشرف المهن وأكثرها أهمية؛ نظرًا لدورها الرئيس في نهضة الشعوب أو تخلفها، خاصة مع تسارع الأحداث واشتعالها في منطقتنا العربية والإسلامية"..

بهذه الكلمات، صدَّر الكاتب الصحفي عبادة السيد نوح كتابه "أصبعي السادسة – خواطر صحفي مهموم"، الصادر عن دار البشير للثقافة والعلوم في 128 صفحة من القطع المتوسط، والذي قدَّم له الكاتب والأكاديمي د.خالد فهمي.

وبلغة رصينة هادئة أكد المؤلف ضرورة إعادة النظر في دور الصحفي، وضرورة البحث عن حقيقة مشروعه في المجتمعات العربية والإسلامية، ومواجهته بعديد من الأسئلة، منها لماذا لا يتحمل مسؤولية الكلمة التي يخطها تجاه ضميره ومجتمعه ودينه، وأين دوره الحقيقي في توعية الناس، وكيف يمكن أن يزاوج بين المهنية وفكره الخاص؟ وحرصًا على الإجابة على هذه التساؤلات شرع المؤلف في إعداد هذا الكتاب، وكتابة العديد من المقالات وإجراء مقابلات صحفية؛ متخذًا في ذلك من "القلم" أصبعًا سادسًا، وهذا إشارة مهمة إلى بيان أهمية الكلمة الصادقة الطيبة والحقة في زمن السيولة المعلوماتية، والتفلت من الحقائق، مشددًا على أن الكلمة الطيبة هي أصل الكتابة ومحور تقدم الأمم، مصداقًا لقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)..

ومن ثم، قسَّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول تتعلق باهتماماته ورؤيته للأحداث، وهي:

الفصل الأول: قضايا إعلامية.

الفصل الثاني: قضايا دعوية.

الفصل الثالث: قضايا فكرية.

فضيلة القلم

وفي تصديره للكتاب، أشاد د.خالد فهمي بالعنوان الذي اختاره المؤلف، موضحًا أن تحليل العنوان "أصبعي السادسة" يكشف عن تغذية ما تواتر في تراث الأمة المسلمة تجاه فضيلة "القلم" من جانب، ورصده الأدب الحضاري، وتمدد ظهوره وانتشر في شعر القرون الإسلامية، وعلى النظر إليه بما هو هبة ومنحة ربانية تزيد في تقدير حائزها.

ونوَّه إلى أن تقسيم المؤلف كتابه إلى 3 فصول تناقش قضايا إعلامية، دعوية، فكرية، إنما يصدر عن وعي ظاهر بقيمة العمل الفكري والدعوي، وعن ارتباط قوي بالقضية الإيمانية الاعتقادية التي يتحرك بها المسلم.

كما أوضح أن هذا الكتاب بتحكيم معايير ما يتضمنه ويهدف إليه صالح للانتماء المعرفي للميادين والمجالات المعرفية التالية:

أولا: الصحافة والإعلام:

فهو بحكم عمل مؤلفه وخبرته، وما تضمنه من مادة معرفية لاسيما في الفصل الأول "قضايا إعلامية"، يُعلن عن انتمائه إلى عالم الصحافة والإعلام، والصحافة والإعلام في التصور الحضاري الذي يؤمن به المؤلف فرع من شجرة الدعوة في التصور الإسلامي للحياة والوجود، تستهدف صناعة الوعي، وخلق الإرشاد.

ثانيًا: السير الذاتية المهنية:

والكتاب يمكن أن ينتمي كذلك إلى ما يمكن أن يسمى باسم "السير الذاتية المهنية" والتي تنقل للقارئ المعاصر خبرة صحفي مسلم شاب عمل في عديد من المواقع الصحفية والإعلامية رفيعة المستوى، وحاز خبرات إنسانية وعملية وإدارية شكَّلت رؤيته لهموم صاحبة الجلالة، وسخَّر نفسه لإصلاح بعض مشكلاتها.

ثالثًا: علم الدعوة:

الفصل الثاني من الكتاب حاكم على ما نقرره بصدد انتمائه إلى علم الدعوة الإسلامية، والدعوة في تصور الإسلام الذي يتحرك به المؤلف واجب على كل من يُعلن متابعته لهذا الدين العظيم، وهو ما جعل العمل الصحفي من وجهة نظر المؤلف صناعة للوعي وطريقًا للإرشاد.

رابعًا: أدب الرحلات:

حيث يتضمن الكتاب بعض المباحث التي تحكي قصة عدد من رحلات العمل، وهو ما يجعل كتابه نصًا جزئيًا في أدب الرحلات، يعكس خفايا البشر والأماكن، ويعكس روحًا شفيفة يُسعدها الإنجاز، ويُفرحها الترقي والتقدم نحو خدمة الدين والأخلاق والحضارة.

روح الأخلاق

وتحت هذا العنوان، أشار د.خالد فهمي إلى أن قراءة الكتاب تكشف أن مؤلفه استصحب معه واحدة من أهم ما يميز المنتمين للتصور الإسلامي من العاملين به في الحياة المعاصرة، وهي ما يمكن أن نسميه بـ"روح الأخلاق".. موضحًا أن الوزن النسبي للمنظومة الأخلاقية الإسلامية المولودة من رحم التوحيد الإيجابي مرتفع جدًا، يتقدم في قائمة مفردات التصور الإسلامي بالطبع بعد التوحيد مباشرة.. وقد ظهرت هذه المسؤولية الأخلاقية كمعيار حاكم وموجه لعلم المؤلف.. وهذه الروح تمثل ركيزة قوية في استنهاض الأمة، ودفعها إلى حدود استعادة سلوك العهد النبوي بما أنه النطاق المركزي الذي يلزم المسلمون المعاصرون استلهامه من جديد.

روح جديدة

وتابع د.فهمي إبحاره في عوالم كتاب "أصبعي السادسة"، مؤكدًا أنه من الكتب القليلة التي تدهشك في ما تقابلك به من ملامح الجِدَّة والجِدِّ معًا، وهو ما يعكس نوع صدق عملي من المؤلف، وأشار إلى بعض ملامح التجديد التي تضمنها الكتاب، ومنها التجديد الاصطلاحي كما في عبارات:

أ‌. الصحافة الجديدة، ترجمة لصحافة المواطن، أو الصحافة التفاعلية التي تطمح إلى تغير العالم.

ب‌. الصراع الدعوي.

ج‌. الدعوة الصامتة، وهي ترجمة للسلوك المنضبط القويم الذي يتغلغل في المجتمع فيؤثر فيه من غير ضجيج!

والمدهش ـ كما يقول د.فهمي ـ أن المؤلف في خلفية تحليله، انطلاقه التأسيسي من قوله تعالى: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ).. إن الدعوة الصامتة، تمثل نوع تدبر مقنع للآية الكريمة.

د. الطابور الرابع: تعبير عن نمط مخيف من الإعلام بتعبير "الطابور الرابع" أمر مدهش من وجهة نظر التحليل الدلالي والمصطلحي معًا.

من أجواء الكتاب

        الأمة اليوم تعيش وعيًا دنيويًا عاليًا، ولم يعد باستطاعة أتباع المدرسة الأتاتوركية والسكسونية دغدغة مشاعر الشعب والاستخفاف بالعقول النيِّرة، والكذب على الجوارح المتشبعة بالإيمان الرباني والعروة الوثقى.

        تزخر سلطتنا الرابعة اليوم بالغث الكثير الذي ساهم في تراجع دورها الرقابي والناقد لمؤسسات المجتمع والدولة بهدف التقويم والتسديد والبناء، ودورها التوعوي للرأي العام بغرض تشكيل الرؤى والأفكار.

        ينبغي الأخذ في الاعتبار أن ما يحدث على الساحة الإعلامية سيخرج أجيالا منفصلة عن حقيقة الأمة وعن قضاياها، فضلا عن شعورهم بأفضلية الغرب وثقافته على الأمة وإسلامها!

        مطلوب من الإعلاميين الشرفاء تشكيل اتحاد قوي قادر على منافسة الإعلام الصهيوني الساعي إلى تزييف الوعي، والانطلاق نحو تصحيح القضايا التي يعمل بنو صهيون وأزنابهم على تشويهها.

        تتوقف حيوية أي نظام إعلامي على مدى الثقة به، ويظهر هذا في معايشة الحراك الاجتماعي، والتعرف على احتياجات الناس والاستجابة لرغباتهم في الخير والاستقامة والانسجام مع فطرتهم الطاهرة، والتعبير عما يجول في خواطرهم ونفوسهم بصدق وأمانة، وليس تزلفًا وابتزازًا ونفاقًا من أجل المتاجرة المتربحة.

        يمكن القول إن معظم البرامج التليفزيونية تركز على القضايا المثيرة حتى وإن كانت سطحية ولا تعود بأي فائدة أو نفع، وبالتالي نتيقن أن وظيفة الإعلام انحرفت عن أهدافها الحقيقية، وبات المال هو معيار التحكم في أي عمل في هذا المجال، باعتبار أن رغبات الجمهور الشهوانية هي التي تجلب الربح الوفير والمكسب الرخيص.. وهذا يتطلب في المقابل التفكير جديًا في كيفية دعم الأعمال الهادفة والمسؤولة.

        إن حق الجمهور على وسائل الإعلام أن يعرف حقيقة الأحداث التي لها أهمية عامة، خاصة أن هدف النشر الصحفي في الأول والأخير هو تنوير الرأي العام بما وراء الأحداث.

        المسؤولية المهنية والأخلاقية للصحفي تقتضي ألا تكون أخباره متأثرة بالمصالح الشخصية أو السياسية، وغير متحيزة إلى مصلحة اقتصادية أو تجارية، كذلك لا بد من تفادي تضارب المصالح والانحياز إلى قضية على حساب أخرى.

        لاشك أن صحافة المواطن قلبت مفاهيم وأدبيات ونظريات الإعلام رأسًا على عقب، وفرضت على الجميع إقرار نجاح تجربة صحافة المواطنين، باعتبارها العامل الرئيس في تغيير واقع الناس اليوم واحترام عقولهم.

        تعيش الأمة الإسلامية حالة من التخبط الدعوي غير المبرر، وتتجلى آثار هذا الخلل في فقدان الدعاة لملكة توريث الدعوة للتلاميذ وطلبة العلم، والعمل لأسباب شخصية بحتة متمثلة في الأنانية أو عدم القدرة على التعليم والتربية باعتباره غير متعلم ومتربي بالدرجة الكافية التي تسمح له بتوريث التجارب والمهارات والخبرات.

        الحقيقة أن الناس لم يعودوا بحاجة إلى كثرة الكلام، بقدر حاجتهم إلى رؤية قرآن يمشي على الأرض، وحاجتهم إلى أناس يعيشون مجتمعاتنا في رخاء وأمن اجتماعي بعيدًا عن النفاق والمكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية.. ويمكن القول إن التجارة الرابحة في الوقت الحالي هي القدوة السلوكية الصالحة التي تحكي حقيقة الدين بعفوية وإخلاص، بعيدًا عن أي رياء.. وهذه هي "الدعوة الصامتة".

        آن أوان التجديد الإيماني والنفسي والمعرفي والفكري والدعوي للوصول إلى درجة المسلم الرباني الذي يعرف الله حق المعرفة، ويطبق ما أمره به، ويبتعد عما نهاه عنه، ويتخذ القرآن منهج حياة لتنظيم جميع شؤونه الدنيوية، وأن نلم بفقه الواقع والأولويات حتى نصل إلى التمكين في الأرض والفوز بالجنات.