benyat altanas

القاهرة – محمد عبدالعزيز:

"بنية التناص في تجربة الهمداني - قراءة في سيموطقا النص".. تحت هذا العنوان يطوف بنا المؤلف والباحث اليمني الدكتور محمد مسعد العودي في رحلة ماتعة في عوالم "التناص؛ مفهومه وجذوره، وأهم تطبيقاته على تجربة تجربة الشاعر الأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني على مستوى الطافي والغاطس، الظاهر والكامن، ورمزيته.

وفي مقدمة الكتاب الصادر في 172 صفحة من القطع المتوسط ضمن منشورات نادي الشعر بعدن العام 2017م، يعترف المؤلف أنه حينما شرع في قراءة نص الهمداني وجده نص مثقل بثقافة الذات كغيره من النصوص.. ويضيف: "أتيت محملًا بثقافتي وأنا مثقلٌ بها أيضًا لأقرأ من خلالها النص المتعالق مع النصوص القارَّة في جمجمة الذات الشاعرة، لا كما هي، ولكن كما بدتْ لي أنا، انطلاقًا من ثقافتي ورؤيتي للنص، والنص يوحي لكل ذات بمعنىً مختلفٍ لا شك.. لقد نوَّمتُ النصَّ مغناطيسيًا ثم استنطقتُهُ فنطقَ وفقًا لما أريد، لكنه لم ينطق إلا بما فيه.. هكذا استخدمتُ التفكيكية بهرمنوتيكاها وفنومنولوجيتها والسيميائية ببنيتيها الطافية والغاطسة والتلقي بجمالياتها والتناص بتعالقه في قراءة النص الهمداني".

وقد قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: دراسةٌ نظريةٌ توضح فهم الباحث للتناص الذي سيقرأ بواسطته التجربة.. الفصل الثاني بنية التناص الطافية والغاطسة في نص أعلن هنا والفصل الثالث بنية التناص الطافية والغاطسة في نص ديوان الهمداني.. واستبق المؤلف هذه الفصول بسيرة ذاتية عن الشاعر والأكاديمي العدني البارز د.أحمد علي أحمد حسن الهمداني، بداية من مولده في 8 أكتوبر 1951م في مدينة الشيخ عثمان, في شارع الدجلة , في المنزل رقم 543/105 , في قسم ب 7 بمحافظة عدن، وهو الشاعر والأديب المحبٍّ لوطنه، المحبٍّ لمدينته عدن، المحبٍّ لإنسانها وعلمائها ومبدعيها وعامة شعبها وتاريخها وجغرافيتها.. وكيف تأثر بحكايات جدته، وكذلك حفظه للقرآن الكريم، وحرص والده على أن يذهب به من شيخ علمٍ إلى شيخ علمٍ آخرَ، ومن فقيهٍ إلى فقيهٍ آخرَ، ومن كتّابٍ إلى كتّابٍ آخرَ، ليأدبه في القرآن والفقه واللغة والشعر.. وكيف أنه كان شغوفًا في تلقي تلك العلوم إلى حدِّ أن جذب إليه الأنظار.. فكانت نباهته مضرب المثل.

وبعد مسيرة حافلة، لم يتقوقع الدكتور في أروقة الجامعة وهو يعلم أهمية علاقتها بالمجتمع إذ خرج الى إثراء الوسط الثقافي خارجها, ووقف على مناهج الدراسات الأدبية الحديثة والنقد الأدبي, وهو الأمر الذي ساعده فيما بعد على تأليف وإصدار ما يقرب من خمسين كتابًا إبداعًا وترجمة وجمعًا في الأدب اليمني المعاصر وحركة الثقافة اليمنية الحديثة وفي الأدب الروسي والسوفيتي.

التنــــاص.. المفهوم والجذور

ومن ثم تحدث المؤلف في الفصل الأول "التنــــاص؛ المفهوم والجذور" عن النص أولا، موضحًا أنه: العمل الأدبي الذي يشغل مساحةً مكانًا وزمانًا ويحمل موضوعًا ما، بدأه كاتبه بقصد وختمه بقصد في لحظة الكتابة، يسمى نصًا، فالرواية نص، والقصة نص، وإذا جمعت القصص في كتاب قيل لها نصوص، وكذلك القصائد إذا جمعت في ديوان شعر قيل لها نصوص".

بينما جاء مصطلح التناص ليغير جذريًا النظر إلى مفهوم النص في ارتباطه مع الذات المنتجة التي لم تعد لها القدرة على لجم تمرد النص، ولا على ضبط المعنى الواحد وتثبيتهَّ ولا على التحكم في أنماط القراءات التأويلية، التناص إذًا حسب سرلرس هو: كلُّ نصٍّ يقع في ملتقى مجموعة من النصوص، بحيث يكون هو الجامع بينها، والمشكل لها، ومكثفها ومحولها وعمقها على السواء.

وأضاف "العودي" أن النص من وجهة نظر التناص ليس له حدٌّ جامع مانع، فهو عند كرستيفا، لا كما هو عند بارت، وهو عند جنيت لا كما هو عند مارك أنجينو، فجوليا كرستيفا تنظر إلى النص بوصفه (جهازًا عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه، أو المتزامنة معه، فالنص إذن إنتاجية), وما دام النص جهاز إنتاج وإنتاجية في الوقت نفسه، فإن النص والتناص شيءٌ واحد، فهو الإنتاج وآليته معًا، وإذا كان هناك من يرى أن النص هو العمل الأدبي، والخطاب هو قراءة ذلك العمل، وهو تفريق بين النص وقراءته، فإن كرستيفا تنظر إلى القراءة بوصفها نصَّا، وهي بذلك توحد بين النص وقراءته، وتفرق بينهما في الوقت نفسه، فهي لا تنظر إلى القراءة كونها خطابًا، بل هي نصٌّ لا يختلف عن النصِّ الأدبي، إلا من حيث هما مقياسان تلخص كرستيفا التفريق بينهما بقانون (هو أن الإنتاجية النصية هي المقياس المحايث للأدب "إلا أنها ليست الأدب "النص" بنفس الشكل الذي يكون به كل عمل المقياس المحايث بقيمة ما دون أن يكون تلك القيمة نفسها).

ويلفت المؤلف إلى ما لاحظته الباحثة فاطمة قنديل، من أن التناصيين ينقسمون إلى اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول: ينظر إلى التناص كونه آليه إنتاج ( ولا يعني أنه ينكر على التناص أن يكون آلية تلقٍ) ويمثل هذا الاتجاه جوليا كرستيفا وجيرارجنيت.

الاتجاه الثاني: ينظر إلى التناص كونه آلية تلقٍ ( ولا يعني أنه ينكر على التناص أن يكون آلية إنتاج) ويمثل هذا الاتجاه رولان بارت وريفاتير اللذين يتفقان في مسألة عزل النص عن علاقات القوى والسلطة إذْ يرى بارت ضرورة منح القارئ تلك الحرية في دخول النص من حيث يشاء، إذْ لا يؤول النص إلى معنى بعينه أو إلى دلالة محدودة، أما ريفاتير فإنه يبحث عن الوحدة الدلالية للنص، والنص يمارس ضغطًا على قارئه فلا يصبح حرًا في دخول النص المدروس.

     ومهما اختلفت نظرة التناصيين إلى النص إلا أنهم يجمعون أن النص يتموضع في منطقة المابين حيث تتداخل العلاقات بين النص والنصوص الأخرى فهو – من منطلق هذا الفهم- لا يتحقق كوجود عيني ماثل إلا في قالب القراءة، وإلا بقي تأملات تسبح بين الوهم والخيال لا يحقق نصيتها إلا الهدم وإعادة البناء.

التناص وجذوره الفلسفية:

ويوضح المؤلف أن التناص بوصفه مصطلحًا نقديًّا لم يظهر في ميدان الدراسات الأدبية إلا مع جوليا كرستيفا في عدة أبحاث لها بين 1966م-1967م في مجلتي (تيل- كيل وكريتك) ولا يخفى على أحد أن كرستيفا قد استوحت مصطلح التناص من باختين، كما تصرح هي بذلك، ولم يكن التأثير المباشر هو بيت القصيد، إذ إن التناص قد تأثر بالفكر الفلسفي بوصفه جزءًا من الفكر الما بعد بنيوي، هذا الفكر الذي أثرت عليه الفلسفات من تجريبية وكانتية، وهيجلية، وماركسية، ووجودية، وظاهراتية، وتأويلية، ويذهب الدكتور مشتاق عباس معن إلى أن التناص في فكر كرستيفا قد تأثر بالفكر الفلسفي منذ بدايته مع أفلاطون وأرسطو، وهو ما أشارت إليه كرستيفا في كتابها علم النص وخصوصًا نظرية المحاكاة.

أما الفصل الثاني فتطرق من خلال المؤلف إلى "شعرية التضاد في نص أعلن الآن؛ الطافي والغاطس".. موضحًا أن هذا نص الحيرة الفلسفية بحقيقة العالم؛ حقيقة الإنسان؛ مبتدئه ومآله.. من العتبة/العنوان (أعلن الآن) يفتح أمامنا هذا العنوان سؤالًا حائرًا: تعلن عمَّا...؟ فتجيب علينا الذات الشاعرة الخالقة للنص المخلوقة فيه من خلال محطات ولحظات تمفصلاتها وتموضعاتها في منعرجات النص واستواءاته، يعلن عن انتمائه الجديد للحق والعدل والثقافة والجغرافيا والإنسانية والقيم، ويكفر بانتماءاته القديمة؛ يكفر بالزيف.. بالظلم.. بالصراع.. بالحرب.. بالمذهبية.. بالهيمنة. يكفر بالشيطان.. و(أعلن الآن) تعني (أعترف الآن) وبماذا تعترف؟ أعترف أني كنت جزءًا مما حدث ولست نبيًا ولا صديقًا لكني إنسان كسائر البشر الخطائين التائبين المعترفين بذنوبهم، الطامعين بعفو الله سبحانه ومغفرته وتحقيق وعده.. هكذا تبدو لنا شعرية التضاد جليةً من العنوان تضفي على النص جمالا بديعًا..

التضاد بين ذات تنشطر إلى ذاتين؛ ذات قديمة وذات جديدة ذات لم تعترف وذات تعترف، ذات أذنبت وذات تتخلص من ذلك الذنب، ليتبين لنا أن صراع الأضداد لم يكن في موجودات العالم الخارجية فحسب، بل هو في الذات الإنسانية أيضًا، بوصفها مرآةً لذلك العالم ولا يتحقق وجوده إلا بها ولا تكون موجودةً إلا فيه.. إن شعرية التضاد تهيمن على جزءٍ كبيرٍ من النص وتأتي من حيث الأهمية، في ظني، بعد شعرية التناص.. أعلن الآن.. عمَّا تعلن؟:

أعلن الآن..

هذي دمشق

التي أغرقتني أساطيرها بالمواعيد،

تسألني:

كيف يأتي معاويةٌ

شاهرًا سيفَه

حاملًا عقله

والوليدُ

بكته العذارى

وأم البنين

تسائل وضاحَ في قبره:

كيف أبدأ بعض الكلام؟

كيف يأتي الرجال الذين أتوا

من عصور الهوى حين كان هشام

يوزع في الجند أحلامه، حين كان

سليمان يشرب نخب انتصار الذين

أتو للعناق، وكيف يجف الفرات ودجلة لا يرتوي

كيف تشرق شمس النهار الجميل!

وينتقل المؤلف بنا إلى الفصل الثالث: "بنية التناص (في ديوان الهمداني) شكلا ومضمونًا"، موضحًا أن (ديوان الهمداني) هو عنوان الديوان الأول للشاعر أحمد علي الهمداني الذي يتناول فيه بنية التناص، مؤكدًا أن المادة الشعرية للشاعر تشكل لوحة فسيفسائية تدل على السعة الكبيرة لثقافة الذات وقدرتها على الاستدعاء في الوقت المناسب.

وحول نص القصيدة الجديدة المتناص معه يقول المؤلف إن نص القصيدة الجديدة أكثر قدرة تعبيرية عن حالة الاغتراب التي يعانيها الشاعر المعاصر من النص الرومانسي الذي وقف عند حدود الشكل البلاغي العربي إلا من بعض التجاوزات.. إن النص الجديد يتجاوز الشكل البلاغي الى التعبير الرمزي الجديد أو من خلال ذلك الشكل، لكنه تعبير رمزي في كل الأحوال.. إذ ينقلنا إلى عالم من الرموز تعجز أمامه قراءة الشرح والتفسير تمامًا وتعجز أمامه البلاغة التقليدية.. إنه بحاجة ماسة إلى التحليل السيميائي لفك شفرته وتأويل دلالته والتغلغل في أعماقه لإخراج جوهرته القابعة في قعر محيطه، ونقرأ في قصيدة "الآن سيخضر الوجه":

أجوب المدائن والطرقات

أبحث عن شرفات النهار المخبأ

في مدنٍ لا تنام

أقرأ في وجهك العربي أحلام قلبي

والقلب يكبر حين يراك..

أجمل من قبل

أقرأ أن المسافات تقصر ما بيننا

أن جسر التواصل يمتد في لغة العاشقين

أعرف أن العصافير عادت تغني

وأن الصباح أطل

وأنت تجيئين في ليلة العرس باقة ورد

تجيئين حلما

يفتح كل العيون

تجيئين نهرا

وأشجار نخلٍ

وزيتونة في شفاه العذارى

لياليك أجمل

كانت مصابيح قلبي ترف

كأغنية في الربيع

أسافر فيك..

لكنني الآن أجمل من قبل

تخضر كل العيون

تخضر

تقرب كل المسافات

يبقى الطريق إليك

أشهى

2

تصيِّرُني أغنياتك كلا

هذي مواعيدك

أصبحت للرجال عناوين للركض في هامة الشمس

إنَّا اختزلنا الزمان لكي نلتقي

إختزلنا المكان لكي نتوحد

صرنا زمانا، مكانا

يصبح الوجه بعدا

يصبح الوجه عنوان عشق

يعيد اللغات احتراقا من الصمت ما بيننا

ويوضح المؤلف أنه على مستوى الطافي المدرك حسيًا فإن الذات تعبر عن رحلة اغترابها عن وطنها، ووطنها ليس اليمن كما هو الحال في المتناص معه بل هو الوطن العربي لأن الذات في المتناص معه اغتربت عن اليمن في مصر لكن الذات في المتناص اغتربت عن الوطن العربي في الاتحاد السوفييتي لهذا كان طبيعيًا أن تشعر الذات في المتناص معه في غربتها عن اليمن وتشعر الذات في المتناص بغربتها عن الوطن العربي:

أجوب المدائن والطرقات

أبحث عن شرفات النهار المخبأ

في مدنٍ لا تنام

أقرأ في وجهك العربي أحلام قلبي

وإحساسه بالاغتراب يدفعه لاستدعاء الوطن الذي يتجسد في طيف حبيبة آسرة لا صبر له عن فراقها فيستدعيها ويختصر المسافة القاهرة لهما ويمد لها جسر التواصل لتركبه وتأتي عليه فتأتيه عروسًا:

أقرأ أن المسافات تقصر ما بيننا

أن جسر التواصل يمتد في لغة العاشقين

أعرف أن العصافير عادت تغني

وأن الصباح أطل

وأنت تجيئين في ليلة العرس باقة ورد

تجيئين حلمًا

يفتح كل العيون

تجيئين نهرا

وأشجار نخلٍ

وزيتونة في شفاه العذارى

وثمة رموز كثيرة بيتها الشاعر تبييتًا تدل على أن هذه المحبوبة هي الوطن العربي ومن هذه الرموز: النخل الذي هو رمز للوجدان العربي دائمًا والزيتون بوصفه رمز لبلاد الشام.. ثم بعد ذلك تنجح الذات بتحقيق طموحه وجلب الوطن الجميل إليها؛ الوطن الذي يعاني تشظي الذات العربية فتوحدها وتوحده وتتوحد معه.. إنه يجوب المدائن والطرقات بحثًا عن فردوسه القابع خلف البعث الذي يدل عليه الرمز/النهار المخبأ ولا شك أن الفاصل بين طموح الذات وعدم تحقيقه هو البرزخ المكاني والزماني.