السبت، 20 أبريل 2024
رئيس التحرير
فهد محمد الخزّي


 

 

المتواجدون على الموقع

المتواجدون الأن

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

 978 2 7451 6685 2

بقلم - أبو زين الوليدي:

يقول الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب محقق كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب ) لإمام الحرمين الجويني رحمه الله:

هذا الكتاب ثمرة صحبة طويلة لإمام الحرمين أربت هذه الصحبة على ( الأربعين) عاما، وهذه الصحبة لم تكن عن اختيار مني أو تدبير، بل العكس هو الصحيح فقد كنت أقدر لدراستي وحياتي العلمية طريقا غير هذا الطريق، وميدانا غير هذا الميدان، وفعلا قدرت ودبرت، واخترت موضوع رسالتي للماجستير.

وبينما أنا في منزل أستاذي الدكتور مصطفى زيد أعرض عليه خطة الموضوع، وكان به مرحبا، إذ دق جرس الهاتف وأخذ أستاذي الدكتور مصطفى في محادثة طويلة، عرفت منها أن الذي على الطرف الآخر هو أستاذ أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، ولما طالت المحادثة، ووجد أستاذي أنه قد شغل عن ضيفه كثيرا، أراد أن يجاملني، فقال للشيخ أبو زهرة: عندي فلان وهو يقرئك السلام، ثم أردف: هـنـِّئهُ، غدا سنعرض موضوع رسالته على القسم، فسأل الشيخ أبو زهرة عن الموضوع، وما إن أجابه الدكتور مصطفى حتى احتدَّ الشيخ أبو زهرة وفهمت أنه يرفض الموضوع وكان عن (الربا وصوره في بعض المعاملات المعاصرة) والدكتور مصطفى يدافع ويقول اطمئن يا أستاذنا، عبد العظيم من أولادنا، ولا تخف أنا أضمنه إنه من المتحنثين (المتعبدين) وكنت أسمع هذه الجملة أول مرة تجري في حديث بين شخصين وعهدي بها أنها من ألفاظ الكتب والمعاجم.

ثم انتهت المكالمة، وراح الدكتور مصطفى في صمت، ولم يقبل على ماكنا فيه من مراجعة خطة الموضوع، ولما رأى في عينيَّ التساؤل، قال: انتهى الأمر، نبحث عن موضوع آخر وأسقط في يديَّ، وظهر علي الضيق والألم بل والغضب المتمرد، فقال الدكتور مصطفى مجيبا عن كل التساؤلات التي تمور بداخلي: أنا لا أستطيع أن أخالف أمر الشيخ أبو زهرة،... هو رئيس قسم وأنا رئيس قسم صحيح لكنه أستاذي، هو في كلية وأنا في كلية أخرى، ولكنه أستاذي، هو لا يملك أن يمنعني من التصرف ولكنه أستاذي.

ثم قال مجاملا: والله يا عبد العظيم أنا أكثر ألما منك ثم تمتم: ليتني ماذكرت له الموضوع، وفعلا هزتني هذه الكلمات، وبدأ الغضب الثائر في داخلي ينزاح ويترك مكانه هدوءا وبردا وأمنا.

وهنا التمع وجه الدكتور مصطفى قائلا: اسمع يا عبد العظيم لعل الله أراد بهذا لك خيرا، بل هو بالقطع الخير كله , لن نضيع وقتا سنتخذ طريقا آخر بعيدا تماما عن هذا الطريق. تذكر كتاب " البرهان في أصول الفقه " تذكره لا شك،أنت نسخت لي منه صفحات منذ مدة بعيدة. ما رأيك أن تكون رسالتك تحقيق البرهان؟ وقبل أن أجيب أردف قائلا: تذكر المقابلات بين نسخ المخطوطات التي قمت بها معاونة لنا حينما كنا نحقق كتاب "السير الكبير بشرح السرخسي" سيكون العمل ممتعا لك ستتعلم شيئا جديدا ستدخل ميدانا رحبا فسيحا، كل ذلك وأنا في صمت متأمل. فقال: لماذا لا تتكلم؟ما رأيك؟ وقبل أن أجيب قال: اعتمد على الله. على بركة الله، الموضوع موضوعي وعليَّ إجازته من مجلس القسم، ابدأ اليوم، فكِّر في خطة الموضوع والمقدمة والدراسة، اذهب إلى دار الكتب، وجدد صلتك (بالبرهان).

وأخيرا وجدت نفسي، فقلت مجيبا أستاذي: على بركة الله، الحمد لله، قدر الله وما شاء فعل، قلت ذلك باطمئنان،ورضا، وثقة، مما جعل أستاذي يقبل عليَّ معانقا، قائلا: مبروك

هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقدير أو تدبير مني، بل على عكس ما قدرت ودبرت، ولكن الله إذا أراد أمرا قدَّره، وهيأ له أسبابه، فمن ذا الذي أمسك ما سيّره، أو قدّم ما أخره، سبحانه سبحانه ما أعظم شانه.

اندفعت في طريقي مع إمام الحرمين في صحبة طويلة، عشت معه في (نيسابور) حيث نشأ، ورأيت بيته حيث درج، وصحبته إلى مجالس شيوخه، ومدارس أساتذته، ثم جلست إليه مع تلاميذه نسمع له، حيث أجلس للتدريس وهو في نحو العشرين من عمره، وأصخْت إليه وهو يخطب بالجامع المنيعي (أكبر جوامع نيسابور) ورأيته والناس حوله يبكون ببكائه في مجالس وعظه وتذكيره.

ثم رأيته يصول ويجول في ميدان المناظرة يقمع دعاة الفتنة، ويرد شبهات الزائغين، ويكشف زيف المبتدعين.

ثم رأيته يصطلي بنار المحنة ولهيبها، فيضطر للهجرة، ويصابر ويصبر ويحتسب من غير أن يتزعزع أو يتلجلج.

ثم تتبعت آثاره ومصنفاته، ورأيت كيف جال في أكثر من علم، وبرع في أكثر من فن، فخلَّف مصنفات تربو على الأربعين عدّا، منها ما يصل إلى نحو عشرين مجلدا، أسعفتنا الأقدار ببعض هذه المصنفات، فسلمت من المحن التي أبتلي بها تراث أمتنا، وبعضها سمعنا به ولمَّا نره بعد.

وأخذت مع هذا أعالج (البرهان ) وأمازجه، وأطيل الإصغاء, محاولا أن أعي ما يريد الإمام أن يقوله في (لغز الأمة) كما أطلقه السبكي على البرهان في طبقاته:5 / 192

ومازلت أسمع من الإمام وأنصت إليه سنوات، حتى حسبت أنني فهمت عنه، وعرفت ماذا يريد أن يقول في كتابه.

كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبع سنوات مباركات وكان من ثمرتها:

1) دراسة طبعت وحدها بعنوان ( إمام الحرمين ــ حياته وعصره ــ آثاره وفكره)

2) تحقيق وتقديم كتاب (البرهان في أصول الفقه)

ثم استأنفت المسيرة مع إمام الحرمين، أستمع إليه وأنصت، وأطيل الاستماع والإنصات، وأديم التأمل فيما أسمع من مؤلفاته كلها، وبخاصة كتابه الأكبر (نهاية المطلب ) وأعرض ما أراه عندي على ما سبقه من كتب المذهب وأقارنه بما بعده من فقه الأئمة، محاولا بذلك إن أصل ــ قدر الوسع ـ إلى خصائص فقهه ومنزلته في مجال الفقه، وكان من ثمرة هذه المرحلة البحث الذي قدمته للحصول على درجة الدكتوراه بعنوان ( فقه إمام الحرمين ــ خصائصه ـ أثره ـ منزلته ) وكان من الحقائق التي ظهرت لي، واستقرت عندي أن علم إمام الحرمين الأول هو علم الفقه، وأن الاشتغال بكتبه وآثاره في علم الكلام واعتباره متكلما، قد شغل الناس ـ بغير حق ـ عن فقهه ومنزلته وجهوده، وأثره في إقامة المذهب الشافعي.

وكان من آثار هذه المرحلة وثمراتها أيضا أنني قرأت كتابه (الغياثي) كلمة كلمة، وهيأته للتحقيق وقد سجلت ذلك في مقدمتي لرسالة الدكتوراه حيث قلت "وكان من خيرات هذا البحث تحقيق كتاب (الغياثي)... أماكتاب(نهاية المطلب في دراية المذهب ) فسيكون تحقيقه ونشره هو الثمرة التالية إن شاء الله.

ورحت أتطلع لما وعدت به من تحقيق (نهاية المطلب) ووقفت أسائل نفسي: هل أستطيع أن أقوم بهذا العمل؟ هل أتمكن من جمع صور لمخطوطاته المبعثرة في خزائن العالم؟ وهل ستكوّن هذه الأجزاء نسخة كاملة؟ وفي كم ن الزمن أستطيع أن أصل إلى هذا؟ وهل أطيق قراءة هذا النص وأقيم تصحيفه، وأصوّب تحريفه؟ ثم هل بقي في العمر فسحة تسع هذا العمل؟

وضعت هذه الأسئلة أمام عينيّ، ورحت أقلب الأمر على وجهه ووقفت حائرا مترددا: أقدم رجلا وأؤخر أخرى، يدفعني حبي لإمامي، وعشقي لتراثه فأتقدم، وتردّني هذه الصعوبات فأتأخر.

وما هو إلا أن شرح الله صدري، وربط على قلبي، فحزمت أمري وعقدت عزمي، فنفضت يدي من كل عمل سوى هذا العمل، وأقبلت عليه إقبال عاشق ولهان، وقضيت هذه السنوات التي تربو على (الخمس والعشرين) أسيرَ هوى إمام الحرمين وكتابه، أبذل في سبيل ذلك كل ما أطيق، أرتحل وراء المخطوطات حيث يعز جلب صورها بالمراسلات، والرجاءات، و الوساطات، وأتابع إعدادها للعمل: من نقل من الميكروفيلم إلى الأوراق، ثم أعكف عليها مفهرسا مرتبا، وفي ذلك من العناء مافيه، " لا يعرف الشوق إلا من يكابده".

وكم من ليلة قضيتها وصورة الكلمة تلازمني في فراشي، وتشاركني وسادي،، وكم من مــرّة أهبُّ من فراشي فرحا مسروراً، مكبرا مهللا،، فقد انكشفت صورة الكلمة الصحيحة، أو استقام لي بناء الجملة، وأسجل ذلك حامدا شاكرا، عادّا ذلك آية على رضا الله وقبوله وتوفيقه.

انقطعت لهذا الكتاب عن دنيا الناس، ووهبت له وقتي، وجهدي، وسري وعلانيتي، ورددتها عما كانت تجاذبني نحوه وتدفعني إليه.

كنت أقول لمن يدعوني للمشاركة في أي عمل: إن إمام الحرمين يجالسني ويراوحني ويغاديني، وهو أمامي على المكتب يأخذ على يدي إن هي امتدت لغير كتابه، كنت استشعر هذا المعنى حقيقة، فما كنت أغادر مكتبي إلا مضطرا لأداء واجب عزاء أو نحوه، وكنت أعود مسرعا، وكأني أقدم للإمام اعتذاري. ومضت السنون وتطاولت الأعوام، وطال العمر واستطال، وأنا صابر جلْد، غير ضجر ولا ملول، بل مستمتع مسرور، ومَن حولي يعجبون، وعن الكتاب يتساءلون،كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد؟؟ " وأنى لهم التناوش من مكان بعيد" " لا يعرف الشوق إلا من يكابده "

تجاوزت الأعوام (الخمس والعشرين) عــدَّاً وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي، وصبري واتئادي، وتأملي وأناتي، وحبي وعشقي، وشغفي وهيامي، ويعطيني كل يوم جديدا، يمنحني فرائد من الفقه، ودقائق من الأصول، وأوابد من النحو، ونوادر من اللغة، وشوارد من الحديث، ويطوف بي مرابع ومجالس ومدارس أسمع فيها أعلام من أمتي وأئمتها.

التعليقات   

+1 #2 محمد امتييس 2015-10-17 19:30
جزاك الله خير الجزاء استاذ ابو زين الوليدي
ونفع الله بك الاسلام والمسلمين
اقتباس
+1 #1 صالح العولقي 2015-10-17 17:06
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
بارك الله فيك اخينا المعلم والداعية ابو زين الوليدي حفظك الله تعالى وجزاك الله خيراً لما قدمت للأمة ونفع الله تعالى بك الإسلام واهله
ونشكر القائمين على الموقع والمشاركين فيه ...
اقتباس

أضف تعليق


كود امني
تحديث

جامعة ولاية سونورا بالمكسيك تمنح عبد الوهاب زايد الدكتوراه الفخرية

سونورا – الوعي الشبابي: منحت جامعة ولاية سونورا بالولايات المتحدة المكسيكية شهادة الدكتوراه ...

حسن بن محمد يكتب: العيد.. وتعزيز القيم الأسرية

حسن بن محمد - كاتب وباحث - تونس: يعتبر العيد مناسبة للفرح والاحتفال لدى كل العائلات المسلمة، وهو ...

مواجهة الإلحاد بالعلم والعقل والدين.. كتاب جديد للدكتور خالد راتب

القاهرة – الوعي الشبابي: أصدر الدكتور خالد محمد راتب، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ...

اتصل بنا

  • صندوق البريد: 23667 الصفاة 13097 - الكويت
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 22467132 - 22470156

عندك سؤال